د.ماجد عزت إسرائيل
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في يوم11 طوبة الموافق19 يناير طبقاً للتقويم القبطي بعيد الغطاس المجيد أو عيد الظهور الإلهي. ويسبق هذا الاحتفال أي يوم10 طوبة الموافق 18 يناير صيام (برمون الغطاس).
ويكون القداس الإلهي لهذا العيد في ليلة يوم 19 من يناير.
وهذا العيد هو إِحياء ذكرى تعميد السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان في نهر الأردن،وهذا النهر يعرف بنهر أو بحر الشريعة ويبلغ طوله نحو251 كم، وينبع من جبل الشيخ في نهاية سلسلة جبال لبنان الشرقية، ويسير جنوبًا عابرًا بحيرة الحولة ثم بحيرة طبريا، ليصب في البحر الميت.
ولهذا النهر قدسيه خاصة عند كل من اليهود والسامريين لعبور بني إسرائيل خلاله إلى أرض الموعد، وعند المسيحيين عامة لأن القديس يوحنا المعمدان عمد يسوع الناصري في مياهه.
ولعيد الغطاس المجيد عدة مسميات منها عند أقباط مصر“عيد الظهور الإلهي” أو الإبيفانيا، وهذه الكلمة تتكرر في قراءة بولس عيد الغطاس ثلاث مرات “لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ،” (تي 2: 11)، “مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،” (تي 2: 13)، “وَلكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ ” (تي 3: 4).
كما يسمى هذا العيد عند الكلدان في العراق أو الموارنة والسريان بعيد ” الدنح”، و كلمة “الدِّنحُ” سريانية تعني الظهور والإشراق، وفي الضياع اللبنانية يسمونه “دايم دايم”.
والحقيقة أن القديس يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً. لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله.
وبينما يوحنا المعمدان يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل.
فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس “وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ».”وَشَهِدَ يُوحَنَّا قَائلًا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ.وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.” (يو 1: 31-33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا.
عيد الغطاس المجيد هو عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح « “وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ ».(يو 1: 33)، والأصل الروحي لـ”الغطاس” أو التعميد هو أن “ينال الإنسان الولادة من الماء والروح، وارتبط الماء بتجديد العالم حين حدث في الطوفان، الخلقة بدأت بالماء والروح لذلك جاء التجديد بالماء والخلقة الجديدة بالماء والروح”.
كما “تعتبر المعمودية ولادة من فوق من الماء والروح، نوال الخلاص من الخطية وغفرانها بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس”.
ونتذكر هنا ما ذكره يوحنا المعمدان قائلاً:”«أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ.” (لو 3: 16)، هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: « “يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ.” (يو 3: 30).
وقدم يسوع المسيح من الجليل ليعتمد على يد يوحنا، أما عماد يسوع فكان اعترافًا بخطيئة الأمة بأكملها كما فعل أنبياء كثرين قبله كموسى ودانيال وعزرا، واتخذها نقطة انطلاق لدعوته العلنية من جهة ثانية، فكان أن أكمل ما بدأه القديس يوحنا.
وفي مشهد تاريخي هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده ليعمده، حل عليه الروح القدس في شكل حمامة، معلنا أنه المخلص الذي أتى ليحمل خطايا العالم، وتحدث الله قائلا: “وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلًا: « هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ».” (مت 3: 17) “، وأيضًا “وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ».” (لو 3: 22).
هذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: “وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ».” (يو 1: 34).
وأكد العديد من الكتاب والمؤرخين أن أقباط مصر يحتفلون بعيد الغطاس في 11 من طوبة، ويكون في شدة البرد أي في نوة الغطاس، وقد وصف لنا المسعودي الاحتفال بهذا العيد قائلاً:
إن لليلة الغطاس في مصر شأن عظيم عند أهلها. لا ينام الناس فيها، وهي ليلة الحادي عشر من طوبة”.
وأيضًا ذكره المقريزي قائلاً:” وكانوا المسلمين يشاركون الأقباط في الاحتفال بالغطاس بشراء الفاكهة والضان ونزول البحر بالليل.
أما الشيخ البشتكي فأكد على أن صوم الغطاس يوم عشرة طوبة، أما العيد فيأتي يوم الحادي عشرة من شهر طوبه.
وتوجد صورة نادرة محفوظة فى مكتبة الكونجرس يرجع تاريخها إلى عام(1900م) وهى لأقباط مصر على ضفاف نهر الادرن أثناء زيارتهم في عيد الغطاس حيث كانوا يغطسون في النهر الذي شهد عماد السيد المسيح على يد القديس يوحنا المعمدان في مكان اسمه المغطس وكانوا يحملون معهم زجاجات من الماء عند عودتهم لمصر؛ ويهادون بها الأقارب والأصدقاء ويحتفظون بها في البيوت للبركة ويشربها المرضى والحزاني والذين عندهم مشكلة وكانوا يحتفظوا بالملابس التي غطسوا بها لكي يتم تكفينهم عند الوفاة .