الجمعة , نوفمبر 8 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

الملكة ترفض الرحيل

 مدحت موريس يكتب :

أنغام هادئة تنبعث خارجة من القصر الكبير..تمتزج بنسمات ليلة شتاء باردة….تحوم حولى وتداعب وجهى وكأنها تدعونى للدخول والمشاركة فى الاحتفال الكبير. كنت على بُعد خطوات من باب القصر الذى فُتح أمامى على مصراعيه كاشفاً عن أول مشاهد الحفل، انه حفل معتاد….لكنه دوماً مُتجدد…حفل وداع واستقبال، وداع لعام مضى واستقبال لعام جديد. جلست فى مقعدى وعيناى تجوبان المكان ما بين راقصين فى وقار، وضاحكين باستمرار، وجالسين – مثلى – فى انتظار….ثم أخيراً وجدت عيناى ضالتها فى صورة الملكة والتى ستحمل بعد دقائق لقب “الملكة السابقة”. دخلت الملكة الى قاعة الحفل فى هدوء لم يُفسده سوى صخب المصورين الذين أخذوا فى مطاردتها وتصويرها من كل اتجاه وهى تتجه نحو المنصة لتلقى كلمة الوداع. كانت تبدو هادئة تبتسم فى وقار، وتسير فى خطوات متزنة تدلل عن الثقة والثبات، لم تظهر على وجهها أى لمحة حزن لدرجة تصورت معها أنها تشعر بسعادة من يُلقى عن كاهله حِملاً ثقيلاً أضناه لفترة طويلة. تأملتها وتأملت تاجها المُرصع بالأحجار الكريمة – ذلك التاج الذى ستخلعه بعد دقائق قليلة لتسلمه للملكة الجديدة. أتاحت لى خطواتها البطيئة أن أرى وجهها الذى ملأته التجاعيد، وشعرها الأسود المُنسدل على كتفيها بعدما غزاه الشيب بشعيرات بيضاء كثيفة تضفى عليها وقاراً على وقار، وجمالاً يتحدى شراسة الكهولة. وقفت الملكة أمام المنصة وجاء صوتها متحشرجاً ممتلئاً بالعاطفة فقد تآلفت معنا وأيضاً تآلفنا معها. استعرضت الملكة أحداث العام بانتصاراتها الضئيلة وانكساراتها الكبيرة، بأفراحها القليلة وأحزانها الكثيرة والتى مازالت تلقى بظلالها علينا حتى الآن، وضاق صدرى وأنا أستعيد معها تلك الذكريات، وتمنيت – كما تمنى الجميع – أن تنتهى كلمتها بسرعة لنخرج من دائرة الذكريات الأليمة. ومع اقتراب تعانق عقارب الساعة وتهيأت أذناى لسماع دقات منتصف الليل…..تغيرت نبرات صوت الملكة وارتفع صوتها وهى تعلن على مسمع من الجميع قرارها الذى فاجأ الجميع وهو بالفعل قرار غريب وعجيب وايضاً فريد فقد اعلنت الملكة قرارها بمد فترة مُلكها لفترة أخرى غير مُحددة !!!!!!!!!!!!……وخيم صمت ثقيل للحظات بعد القرار الذى اعلنته الملكة بصيغة آمرة ثم صارت همهمات وهمسات بين الحاضرين وهم لا يفهمون معنى قرار الملكة التى يبدو أنها تعمدت أن تثير حيرتنا قبل أن تستطرد موضحة ” لقد جئت اليكم فى بداية العام وأنا أُمنى نفسى بقضاء فترة سعيدة معكم لكنكم – للأسف – خذلتمونى بشروركم وأفعالكم الرديئة وتصرفاتكم الغبية، لهذا أجلت رحيلى فمن حقى أن أقضى معكم أياماً سعيدة ولن أرحل قبل أن أبصر السعادة والمحبة تتحققان فى وجودى!!!!!!!! وساد الصمت ثانياً على المكان قبل أن يأتى صوت ساخر من خلفى “يعنى ايه مش ح ترحلى؟….يعنى السنة دى ح تبقى عشرين شهرمثلاً !!!!!!؟” وارتفعت ضحكات الحاضرين ساخرة بينما ازدادت حدة الملكة وهى تعلن تصميمها على تنفيذ قرارها بعدها انبرى واحد من الحضور قائلاً ” لقد كنت نذير شؤم وجلبت لنا المصائب فى هذا العام الكئيب” ردت الملكة ” أنت تتحدث كجاهل لا يوجد فأل حسن ولا نذير شؤم بل يوجد فقط أعمال وها أنا أمنحكم الفرصة لتعيدوا النظر فى أعمالكم الرديئة وتحاولوا أن……..” وهنا قاطعها صوت آخر صائحاً ” ما هذا الهراء…..اطردوا هذه العجوز المجنونة….فقد قاربنا على منتصف الليل” بينما علا صوت آخر ” أنظروا الى وجه العجوز الشمطاء – هذا الوجه المجعد الكئيب – لتعرفوا لماذا قضينا عاماً بائساً” قال هذا فانفعلت الملكة المسكينة وأخرجت صورة لحسناء شابة ذات وجه ملائكى…..رفعتها فى وجه الجميع وهى تصرخ ” هذه أنا….هل تذكرون؟….هذه أنا عندما أتيتكم منذ اثنى عشر شهراً ….أنظروا ماذا فعلتم بى”…وارتفعت دقات منتصف الليل وسُمع صوت طرقات على باب القصر…..واندفع البعض نحو الملكة التى كانت لاتزال تصرخ فى الجميع وهى ترفع صورتها الحسناء أمامهم…فخلعوا التاج من رأسها ….وحملوها وأخرجوها عنوةً من الباب الخلفى للقصرفى قسوة لا تتناسب مع شيخوختها بينما سقطت من يدها أمامى صورتها الجميلة…. فانحنيت تلقائياً ملتقطاً اياها….فى نفس اللحظة تدافع الكثيرون نحو الباب الأمامى للقصر لاستقبال الملكة الجديدة…..الحسناء الجميلة التى دخلت الى الاحتفال فى موكب صاخب سعيد عنوانه البهجة والتفاؤل التفت نحوهم….ورأيت الملكة الجديدة….الشابة…الحسناء…..الجميلة….نظرت اليها وغلبنى الذهول….نظرت الى الصورة التى بيدى ثم نظرت للملكة الجديدة مرة أخرى فرأيت نفس الجمال والشباب…ونفس الوجه الملائكى……بل فى الواقع رأيت نفس الصورة التى فى يدى وعرفت أن الملكة هى الملكة، وفهمت أن الأيام القادمة هى مثل الايام الماضية وان افعال المستقبل هى نفس افعال الماضى..فقت حزناً بعدما أدركت مصير الملكة الجديدة الجميلة بعد اثنى عشر شهراً.

شاهد أيضاً

الأقصر

ايهاب صبرى يكتب : الطبخة استوت وريحتها فاحت

منذ اندلاع ثورة يناير وبدأ الشعب المصري فى فقدان الهوية المصرية وشيئا فشيئأ طبخ علي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.