نهاية هذا العام مختلفة عن بقية الأعوام عند توديعها، إنه عام الـ”كورونا”، عام المرض والموت، وتوقُّف العبادة، وتوبة الكثيرين، وتأثُّر الاقتصاد، ونشاط علماء الأمصال واللقاحات، وتبادُل الاتهامات بين الدول، واغتناء من تسمّوا “أغنياء الوبأ” (على غرار اغنياء الحرب).. غير أن ما يعنينا بالأكثر هنا هو التأثير الروحي والكنسي للوباء هذا العام، فما هي ملاحظاتنا حول هذا العام؟
1- نودّعه بكثير من الشكر: لأن احتمال مفارقتنا لهذا العالم كان كبيرًا جدًا، لا سيما وقد مات الكثيرون وبسيناريو مختلف، فالذين ماتوا في مصر وغيرها ليسو من المتقدمين في السن فقط، ولا أصحاب الأمراض الخطيرة، ولا من لزموا الفراش مدة طويلة، بل ينتمون لجميع الأعمار، ومنهم من ماتوا سريعًا، ووصلنا إلى قناعة أن أيًّا منّا يمكن أن يموت دون مبرِّر واضح للإصابة ولا تمهيد، وبدا لنا أن الأمر ليس له قواعد مُحدّدة، فقد أُصيب كثيرون ولم يموتوا، كما اختلط الكثيرون بالمرضى ولم يُصابوا، بينما أُصيب الكثير من الحريصين؛ فكم نحن ممتنّون لأننا ما زلنا أحياء!ومع ذلك فالذين نجوا من الوبأ ليسو بأفضل ممن ماتوا به، كلّا! فقد نكون نحن الأحياء خطاة وقد وُهِبنا فرصة إضافية لنقدم فيها توبة، وعندما يُقال: “لا تقبضني في نصف أيامي” أي قبل أن تكمل توبتي، «أقولُ: يا إلهي، لا تقبِضني في نِصفِ أيّامي. إلَى دَهرِ الدُّهورِ سِنوكَ» (مزمور 102: 24).
وعندما يقول مار إسحق السرياني: “حقًا لقد قيل إن مخافةَ الموتِ ترُعب الرجلَ الناقصَ، أمّا الذي له في نفسِه شهادةٌ صالحةٌ فإنه يشتهي الموتَ كالحياةِ”، فهو يعني الناقص توبة والناقص فضيلة.. إذًا فقد يكون الذين ماتوا أكثر برًّا واستعدادًا منّا نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة.
2- خبرة الحرمان من الكنيسة: في هذه السنة اختبرنا الحرمان من الكنيسة، حرمان وصل إلى منع الدخول من بوابتها! لقد عُلِّقت القداسات والخدمات بأنواعها، والأكثر من ذلك هو غلق البوابات الخارجية لها، ممّا أثار شعورًا بالحرمان من دخول بيت الله من جهة، والرفض من جهة الله من جهة أخرى، حيث رأى البعض أن الله عندما رآنا نُحجِم عن الدخول إلى بِيعته وهي مفتوحة طوال الوقت، أراد أن نجرّب أن يغلقها في وجوهنا لبعض الوقت، وها نحن ننحني ونقدم الكثير من الاعتذار قائلين مع الأب الكاهن (عندما يغلق السِتر في نهاية القداس): “اجعل باب بِيعتك مفتوحًا أمام وجوهنا على ممرّ الدهور والأزمان”.
3- موسم توبة: لقد تاب الكثيرون ورجعوا إلى الله، حدث هذا مع كثيرين عندما شعروا أن الأمر خطير بالفعل، وأنهم يودّعون كل يوم بعضًا من أحبائهم، وأن الدور يمكن أن يكون عليهم؛ وهكذا كتب كثيرون وصيتهم، وودّعوا أحباءهم، اعترفوا تليفونيًا، وجاءتهم المناولة في المنزل، ومن نجا منهم تغيرت حياته.لقد أفادنا الآباء الكهنة بأن عددًا لا يُحصى من الناس الذين لم يكونوا يرتادون الكنيسة، دخلوها بشغف بعد افتتاحها، ومنهم من لم يكن يعترف ولا يتناول، وقد تمّموا ذلك بدموع وفرح؛ بل يروي لنا الآباء إنهم في المقابل عندما كان مسموحًا لهم أن يناولوا الجسد والدم في المنازل -خلال شهر أبريل الماضي- أن كثيرين كانوا يقفون في الشارع أمام المنزل ليستقبلوا الإفخارستيا، وذلك بالسجود والزغاريد والدموع، وبعض ممن لديهم متسع في السكن أعدّ حجرة خصّصها للتناول وأغلقها بعد ذلك.
4- طول أناة الرب وإمهاله: تقول يهوديت في صلاتها: «وَلكِنْ بِمَا أَنَّ الرَّبَّ طَوِيلُ الأَنَاةِ، فَلْنَنْدَمْ عَلَى هذَا وَنَلْتَمِسْ غُفْرَانَهُ بِالدُّمُوعِ الْمَسْكُوبَةِ» (يهوديت 8: 14). من ميزات بعض الأمراض -مثل وباء كورونا- أنه يعطي مهلة للإنسان لكي يراجع نفسه ويستعد للموت، إذ لا يخطف الموت بالوبأ الإنسان خطفًا، بعكس الموت في الحوادث أو بالسكتة القلبية أو الدماغية، وهكذا سمع الآباء آلاف الاعترافات سواءً وجهًا لوجه أو فمًا لأُذن عن طريق التليفون، أو بالكتابة عن طريق الشات chat، وأعداد كبيرة تناولت عندما أُتيح لهم التناول في المنازل، وعندما أُعيد فتح الكنائس في أغسطس 2020 عاد إلى حضن الكنيسة كثيرون ممن لم يفلح معهم النصح والافتقاد، وحين ترك الآباء الأمر للرب ليتدخل بطريقته «وَأَنْتَ يَا إِلهَنَا ذُو صَلاَحٍ وَصِدْقٍ، طَوِيلُ الأَنَاةِ وَمُدَبِّرُ الْجَمِيعِ بِالرَّحْمَةِ» (حكمة 1: 15).
5- فرصة جديدة: علينا أن نشكر الله كثيرًا أن هذا العام الاستثنائي ينتهي وما زلنا على قيد الحياة، فقد فارق عالمنا الكثير ممن نعرفهم شخصيًا وممن لا نعرفهم، كما أنه اكثر عام ينتقل فيه آباء كهنة بسبب الوباء، وهم شهداء من وجهة نظري لأنهم ضحّوا بحياتهم من أجل الخدمة، وكانوا يعلمون أنهم باتصالهم كثيرًا بالناس -ولا سيما المرضى- مُعرَّضون للإصابة والموت، ومثلهم الأطباء والفرق الطبية، الذين فعلوا نفس الشيء، فكان لهم في أنفسهم حكم الموت.
6- حطام العالم: واستخفّ الناس في الشهور الأخيرة بالمال والمقتنيات، وألقى كثيرون بالأوراق المالية في الشوارع، ونظروا إليها باستخفاف لأنها لم تستطع أن تمنحهم الشفاء أو تنجّيهم من الموت. ولعل الصور التي أتتنا من إيطاليا -وكانت من أكبر البلاد التي مات فيها الناس بسبب الوبأ- تثبت ذلك. حقًا قال أحدهم: إن المال يمكن أن يشتري الأسرّة ولكنه لا يجلب النوم، ويشتري الأدوية ولكنه لا يمنح الشفاء، ويشتري الطعام ولكنه لا يهب الشهية.وقال آخر في مصر إنه قبل الوبأ حلم مرتين: الأولى بسفينة تغرق قليلًا قليلًا ولا منقذ، والثانية بماء يرتفع داخل حوض أملس بسرعة والناس يغرقون رويدًا رويدًا. حقا قال الرب مُحذِّرًا: «لأنَّهُ ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نَفسَهُ؟ أو ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفسِهِ؟» (متى 16: 26).
7- وكان مَحكًّا حقيقيًا: ولكن من خصائص هذا العام، أنه مع انتشار الوبأ ظهرت أنواع من معادن الناس: منهم فِرَق المتطوِّعين المغامرين بحياتهم لحمل المرضى ومرافقتهم، ومنهم المتبرِّعين بأموالهم بسخاء لهذه الخدمة، والمُصلِّين لأجل أن يرفع الله الوبأ، ومنهم من تنكّر لذويهم خوفًا من العدوى؛ فظهر أنبل وأسوأ ما في الناس معًا على هذا المحكّ.. وبين هذا وذاك تعامل بعض من الناس بحذر ورعب مع أقرب الأقربين إليهم، زوجات وأزواج وأولاد.. هنا التنكُّر والأنانية!كما كذب الكثيرون وأخفوا إصاباتهم ونقلوا العدوى إلى كثيرين بقصد أو بغير قصد، لمجرد أن كبرياءهم منعهم من الاعتراف بالإصابة، أو لعدم تصديقهم بأنهم مرضى، واعتبر الكثيرون أن ذلك الوبأ يُعَدّ عارًا.. ومن ثَمّ لم ينعزلوا، ولم يتقدموا لتوقيع الكشف عليهم، لعلاجهم من جهة، وحماية الآخرين من جهة أخرى.. وهنا الكبرياء والمكابرة!
8- أكبر عدد من المنتقلين: وممّا أدركناه جيدًا خلال العام الذي يستعد الآن للرحيل، أن أكبر عدد من الموتى -إذا استثنينا قتلى الحروب- قد فارقونا هذا العام، وصار خبر الإصابة بالفيروس وتوقُّع الوفاة تقليديًا. وقد غيَّب الموت الكثير من أحبائنا، ومن ثَمّ توقَّع الكثيرون أن يُصابوا في أيّ وقت وأن ينتقلوا من هذا العالم. وقد ارتفع معدَّل الإصابات والوفيات هذا الأسبوع لدرجة تدعو إلى التوقُّف وإعادة النظر، وأصبح الموت رخيصًا، وأعني بــــ”رخص الموت” هنا، أنه لم يعد له تلك السطوة والفزع الذي كان قبلًا.
9- الكنيسة بيتنا الحقيقي: ومن ثَمّ فقد تأكدنا هذا العام من حب الناس للكنيسة أكثر من بيوتهم، وفي الفكر القبطي الكنيسة هي “البيت الحقيقي”، وأمّا سكنانا فهو غربة مهما كان نوع السكن ودرجته ومكانه، فالاسم الدالّ على الكنيسة في اللغة القبطية هو: “بي أي pi`hi” أي البيت ويُنطق في العربية: “بِيعة”. وعندما نجد طفلًا يتحرك بحرية في الكنيسة، ويلعب ويأكل وينام أحيانًا، ندرك على الفور أنه يشعر بقوة أن هذا المكان هو بيته، بل قد يمنحه المكان حرية أكثر من تلك الممنوحة له في منزله الخاص! ومن ثَمّ أيضًا يرتاح الأهل إذا قضى الطفل شطرًا أكبر من الوقت في الكنيسة.
10- الإفخارستيا: كما أدركنا جميعًا أن أغلى ما نملكه -كبارًا وصغارًا- هو الإفخارستيا، فلم يحزن الناس على الاجتماعات والأنشطة -حتى الأطفال- قدر حزنهم على الحرمان من القداس والتناول، كما شعروا بأهمية وجود الكنيسة والكاهن في حياتهم، ويجيء هذا ردٌّ على الذين تطاولوا في البداية على الله وعلى الناس معًا من الملحدين، مردِّدين إنه: ها الكنائس وقد أُغلِقت ومثلها بقية دور العبادة، ومن ثَمّ يمكن للناس أن يواصلوا حياتهم بدون الله والمعابد، وعندئذ جاء الردُّ لاطمًا لهم، حين أكّد الناس أن حياتهم دون الله والكنيسة لا معنى لها ولا قيمة.
11- باب الكنيسة: عودة الى باب الكنيسة، فمن الملاحظات الهامة جدا هذا العام هو اكتشافنا لأهمية باب الكنيسة المفتوح! عندما أُغلِقت الأبواب خمسة اشهر (من أبريل إلى أغسطس)، انتاب الشعب شعور قاسٍ بأن الباب الذي ظلّ مفتوحًا على مدار قرون، والناس يمرّون من أمامه دون مبالاة، أصبح موصدًا أمام وجوههم، يُمنّع عليهم دخوله بأمر الوبأ والبوليس معًا..! وقال بعضهم بحسرة: نودّ أن يكون الباب مفتوحًا لنشعر أن الله فاتح بابه وأحضانه وبيته لنا، وحتى وإن لم ندخل لانشغال أو شعور بعدم الاستحقاق، فيكفي أن الآباء وكثيرين من الشعب يصلّون عنّا.. ولكنهم في الحقيقة دخلوا وصلّوا بشَرَه عجيب.
12- الهدوء ولمّ شمل الأُسَر: لا شكّ أن الاضطرار للمكوث بالمنازل، بقدر ما أصاب البعض بالسآمة والملل، فقد أفاد البعض الآخر في اكتساب فضيلة الهدوء والتأمل، هدوء الحواس وهدوء الجسد وكثرة التفكير، ولمّ شمل أُسر كثيرة. كان الآباء والأمهات والأولاد كلٌّ مشغول عن الآخر. كما استطاع عدد كبير من الناس أن يعود إلى القراءة وإلى متابعة العظات والانتظام في التدبير الروحي.
13- التكنولوجيا: وبهذه المناسبة علينا أن نشكر الله كثيرًا على تكنولوجيا الاتصالات، التي أتاحت لنا التواصل مع الآخرين ومع الكنيسة، بكل ما قدمته من لقاءات وفعاليات، سواء الهواتف الذكية أو القنوات الفضائية، والجهد الكبير الذي بذلته خلال الأشهر الماضية. كما أتاحت هذه التكنولوجيا لكثير من الموظفين متابعة عملهم من المنزل، ومثلهم الكثير من الدارسين في متابعة دراساتهم وامتحاناتهم من خلال الميديا، كما حصل الآلاف من أولادنا على كورسات في شتّى العلوم الكنسية.
14- مظاهر العيد: ان كنت تشعر بالاستياء لان الاحتفالات قد أُلغِيت، وأنك ستعيِّد في هدوء، فتذكر أن السيد المسيح قد وُلِد في هدوء وبدون صخب ولا احتفال، بل في مذود بسيط وبين الحيوانات، وعقب ولادته صار مُطارَدًا من هيرودس الملك. هكذا وُلِد في ليلة قارسة البرودة، وسط ثلاثة أشخاص فقط، هم مريم أمه ويوسف خطيبها والقابلة، وبعض من الدواب، مع روائح غير مُستحبّة وأصوات مُستنكَرة، هذا مقابل السيمفونيات والعطور وأفخر الطعام، وأصوات المرح وزحام المحتفلين (فبعدها بسنوات قُتِل يوحنا المعمدان في فعاليات عيد ميلاد هيرودس أنتيباس -متى 14).كان الطفل يسوع المولود عظيمًا، فألقى بهيبته وعظمته على الموضع الحقير، ولم ينتظر أن يضفي ما حوله ومَن حوله على ولادته جمالًا وكرامة. ولعلكم الآن تدركون لماذا لا يضع الفنان القبطي في أيقوناته تاجًا على رأس السيد المسيح، فهو مصدر كل كرامة، ولا يحتاج إلى تكريم من الخارج.لقد نسي كثيرون مع الوقت سبب الاحتفالات مع حلول العام الجديد، وانشغلوا بالعطايا دون العاطي، وعبدوا المخلوقات دون الخالق كما قال القديس بولس (رومية 1: 25). يذكّرني هذا بحفل أقامه شخص عظيم بمناسبة ولادة ابنه الوحيد، ودعا الناس من كل حدب وصوب ليفرحوا معه بابنه، وأعدّ لهم بهذه المناسبة كل ما يسرّ ويبهج، فجاءوا ليأكلوا ويشربوا ويمرحوا، بينما لم يلتفت أحد إلى صاحب الحفل نفسه! هكذا يسلك الكثيرون في عيد ميلاد الرب يسوع، وهكذا قد ينشغل الأولاد عن الأب والأم بهداياهم…
15- احتفل جوهريًا برأس السنة والعيد: فلنجرّب هذا العام كيف تكون الاحتفالات بهدوء وتأمّل، ومع الأسرة الصغيرة، وبالإفخارستيا وهي أغلى ما هو ممنوح لنا في هذه الحياة. قديمًا وداخل المنازل القبطية، كانت الأسرة تجتمع يوم العيد لترتل تراتيل العيد، وكانت تنتظر بشغف القداس وهو يُذاع بالراديو من الكاتدرائية ليأتِ صوت قداسة البابا والخورس عبر الأثير، ولا يشعرون بطعم العيد إلّا بعد أن يُبهجوا بعض الفقراء بالثياب والطعام وبعض النقود، ويرون فيهم يسوع مولود المذود.
16- الاهتمام بالجوهر: لقد انتقل الاهتمام بالجوهر بسبب الوبأ وتداعياته إلى عدة مجالات في حياتنا، منها الأفراح حيث اهتم العروسان وعائلتا المنشأ بإتمام السر الكنسي وكفى، متنازلين في ذلك عن مظاهر الأفراح المعتادة بما فيها من مبالغة أو رياء أو إجهاد مالي وكثرة المشاركين. ومثلها الجنازات التي كان الاهتمام فيها ليس بالميت وإنما أهله وعدد المشاركين وقيمة الصندوق وعدد الكهنة، فصار جُلّ ما يتمنونه هو صلاة الكاهن عليه وحسب ولو في القبور في حضور نفر قليل؛ وهكذا الحال في المعموديات وغيرها…
17- أخيرا.. نعلم أن الوبأ لم ينتهِ، وأنه ممتد في العام الجديد، وأن موجته آخذة في الارتفاع، ومن ثَمّ نحن أكثر استعدادًا من أي عام ودّعناه، ولكننا نأمل أن يرفع الله عن العالم الوباء والفناء وكل أمر رديء، ونشكر الله أنه أبقانا، ونشكر كل من تعب وكل من يتعب الآن لأجل المرضى، ونطلب نياحًا لكل من سبقونا، وعاجل الشفاء لمن يعانون من أثار الفيروس.. احفظ يارب مصرنا وكنيستنا والعالم كله.
الأنبا مكاريوس، الأسقف العام