الأحد , نوفمبر 24 2024
المهندس محمد عبد السميع

ذكريات الطفولة مع نصر أكتوبر ١٩٧٣ نموذج تربية الانتماء للوطن.

المهندس محمد عبد السميع

لقد عشت أحداث الحرب حتى النخاع من وقت ما بدأت الكتابة اليكم ، فكانت النتيجة اننى استرجعت ذكريات طفولتى وقت المعركة ..

هذه هي ذكرياتي عن حرب أكتوبر عام ١٩٧٣.. أما كيف بدأ كل شيء فلذلك قصة.. هل تسمعها؟.. إذن تعالَ وأعدّ لنا كوبين من الشاي الثقيل كي يحلو الكلام..

هذا أنا الصبي الذي دخل السنة السادسة ابتدائى مدرسة مصطفى كامل الابتدائية سنة ١٩٧٣ ، لم أكن اعلم شيئا عن السياسة على الإطلاق.. فقط أعرف أن إسرائيل دولة شريرة تقتل أطفال المدارس “بحر البقر” ونسمع طلقات مدافع الطائرات ومدافع مجاورة لنا فى مطار المنصورة او كما يطلق عليه (شاوة) مما يؤدى الى تحطم زجاج الشبابيك مما يضطرنا للصق الزجاج بلاصق بخطين متعامدين ، كانت مدرستنا مميزة بفصولها ،وحوشها ،وجدرانها التى كانت مرسوم عليها صورا لجنودنا وطائراتنا.

وقتها كنا نرتمى على الارض واضعين ايدينا على رؤوسنا كما علمنا مدرسينا عند سماع صوت الانفجار .. ثم ننتفض بعد ذلك لتنظيف التراب العالق ببجامات المدرسة او المريلة .

يوم السبت ٦ أكتوبر هو ثاني يوم سبت لي منذ بداية العام الدراسي .. رمضان بدأ منذ عشرة أيام، وفي ذلك الوقت كان أكتوبر يعني جوًّا معتدلاً لهذا لم يكن الصيام صعبًا علي.. كانت الطرقات مليئة بعيدان القش الملفوف على هيئة دوائر لدرس الرز بيسموها (الرمية) واحمالا من حطب القطن الملقى على الارض فى طرقات القرية ..
وما ان أعود لداري بعد اللعب على رميات القش والامساك بعصا القطن ووضع اللوز الاخضر فى أطرافها لضرب زميلا لى على مسافة كانه المنجنيق ركل “صلاح” وخطف حقيبة “عصام” ولكم “عاصم “….

هناك شيء غريب.. هناك عربات لورى كبيرة الحجم بها عساكر وقفت بجوار مدرسة طلعت حرب ومحطة القطار الفرنساوى القديم لتمدد اسلاك تليفونات على الابراج ، لم نعلم وقتها شيئا عن الحرب .

لكن عندما اقتربت من حارتنا وجدت اناسا كبار من العائلة يقفون على ناصية شارعنا وجميعهم يلتفون حول أجهزة الراديو الترانزستور الصغير . الكل قلِق.. ماذا حدث؟.. لم أر هذا المشهد إلا وأنا في الصف الأول الابتدائي يوم وفاة “جمال عبد الناصر”.. لكن لا أحد يبكي الآن ..
وصلت البيت ووجدت والدى يخبرنى أن أذهب فورا لبقالة الحاج سعيد رحمة الله عليه لأشترى حجر بطارية كبير الحجم عدد ٢ ، ويسجلهم على النوتة (دفتر صغير يقيد فيه الحساب لاخر الشهر) فما كان منى الا ان اسرعت واشتريتهم ومعهم بقرش صاغ حلاوة شعر لأفطر عليها ، وصلت للبيت وعلمت من والدى أن الحرب نشبت. 
جيشنا عبر قناة السويس. أختي طالبة اصغر منى عادت للبيت بسرعة وأخبرتهم أنها سمعت ايضا من الناس فى الشارع أن الحرب بدأت كنا وقتها قبل المغرب بساعه .

وضع والدى حجر البطارية فى الراديو ذو اللون الاحمر ، وفتح زرار المحطات وجده لا يهمد لحظة : بيان رقم اثنين من القيادة العليا للقوات المسلحة… بيان رقم ثلاثة…


يحول المؤشر إلى إذاعات مختلفة نستمع الى محطة لندن للحصول على الخبر المضمون لاننا لم نعد لدينا ثقة فى ما يذاع فى الراديو لكن كانوا يوشوشون عليها بصفارة كئيبة عالية، فلا نفهم شيئًا. تحول المؤشر إلى إسرائيل فنسمع مذيعًا أخنف يقول في حسرة مصطنعة : إن “السادات” ارتكب خطأ عمره باستفزاز أقوى جيش في المنطقة.. مسكين أنت أيها الجيش المصري.. مسكين أنت أيها الشعب المصري.. تتقلص أمعائي رعبًا..

أبي يشخط في أمي ويطالبها بتغيير المحطة . كان معه حق؛ لأنني عرفت بعد هذا أن إسرائيل كلها كانت في ألعن لحظاتها، ولم يصدق أحد قادتها ما يحدث في هذه اللحظات بالذات.. “موشى ديان” بكى أمام الصحفيين العالميين، و”جولدا مائير” .ولأول مرة اسمع عن هذه الاسماء التى اثارتنى رعبا ماهذا الموشى وماهذه الجولدا اسماء مرعبة…
عندما جاء المساء عرفت خبرًا سرني بطبيعة الحال هو أن المدرسة مغلقة لأجل غير مسمى “لقد عادت إجازة الصيف” مرة أخرى ، فرح والدى ايضا بصفته كان مدرسا فهو الآن سيعود لهوايته لأعمال الزراعه فى ارضه التى يهواها ، وطبيعى سيهلكنا ايضا بالعمل معه ، .


في الليل أصحو في ساعة متأخرة لأستمع للراديو الذى لم يغلق ووالدى يجلس بجواره ، استمع الى نداءات على موجات مختلفة لا أفهمها انا ولا من معى ولا حتى والدى كانت عبارة عن نداءات بشفرات لايفهمها الا رجال الجيش مثلا : من قاعده (م ك ع) الى (ط ث غ) 12 حول … وفجأة البيت كله يهتز بفعل إنفجار هز المنطقة وكان السماء تتكسر .. رائحة البارود في هواء الليل، ويخبرني أبي أنها بطاريات الدفاع الجوي في مطار المنصورة او قواعد الصواريخ المجاورة لبلدتنا تطلق القذائف على غارة..


أمي تتساءل عن كل هؤلاء الذين يحاربون الآن في الرمال والظلام ولم يظفروا – يا كبدي – بساعة راحة منذ ظهر السبت .. فجأة صارت أمي أمَّ هؤلاء جميعًا ..وأتذكر عمى عبد الرازق رحمه الله فى خضم هذه المعارك .
ذهبت ذات يوم مع والدى للحقل ، لاشاهد بعين رأسى اماكن فى ارضنا واراضى الفلاحين والمجاورة لنا ، حفرا فى الحقول ناتجة عن انفجارت قد حدثت امس ونتج عنها سقوط طائرة ، وقد اقتلعت هذه الانفجارات المزروعات بالكامل ..
في اليومين التاليين تتضح الأمور أكثر، ونعرف أننا حققنا معجزة فعلاً، وأن البيانات التي نسمعها تختلف كثيرًا عن بيانات ١٩٦٧ “المضروبة”. 


الأخبار السارة تتوالى.. تقدُّم.. تقدُّم.. السوريون يجتاحون الجولان وقواتنا تسحق لواءاُ مدرعًا بالكامل وتأسر قائده.. لم أنس الاسم بعد كل هذه السنوات: “عساف ياجوري”، وهو شيء خمول بدين يدخّن بإفراط واسمه ايضا مرعب .
شارع البحر فى المنصورة كله ينظر للسماء وقد خيل لنا كأن المعركة تدور فوق سنترال المدينة .. في الحقيقة كانت بعيدة جدًا.. هناك طائرات إسرائيلية تحلق، بينما تطاردها طائراتنا.. تعلمنا شكل الميج والفانتوم من على هذه المسافة. طائرة إسرائيلية تهوي.. ثم تبتعد طائراتنا ليظهر خيط من الدخان من مكان ما.. إنه الاختراع السوفييتي الرهيب “سام – ٦ ” . 
نرى الطائرة الإسرائيلية تعلو وتهبط بينما خيط الدخان يقتفي أثرها في إصرار وعناد، وفي النهاية يلتقي خيطا الدخان ليصيرا خيطًا واحدًا يهوي بعيدًا..بعيدًا.. باي باي يا “حاييم” أو يا “ليفي” أو يا “أموتاي”..

يقف والدى وانا بجواره لأستمع لحوارات الناس..بيقولوا الاسرائيليين ضربوا ٨ كبارى..
انظر لكوبرى طلخا الحديد الضخم كيف يتم تدمير مثل هذه الكبارى ؟؟ لم اتخيل وقتها شكل الكوبرى طبعا .

في هذه الفترة جعلت بطاريات الصواريخ المصرية سماءنا منطقة موت للطائرات الإسرائيلية، وامتلأت حقولنا بقطع الطائرات التى اسقطتها الصواريخ وتسارعنا فى الحصول على قطعه منها لنحتفظ بها فى بيتنا قبل حضور الجيش لأخذها من الحقول ، بقيت احدى هذه القطع ذات الشكل المخروطى بطول متران لسنوات طويله مغروسة فى الارض لم يستطع احدا ان يقتلعها العدة سنوات خوفا من انفجار قد يلحق بمن يقترب منها ، ولم نعلم ماهويتها لسنوات عده ..
منظر السماء وهى ملونه بهالات من الدخان الاحمر والازرق والوردى عهدناه دوما عبر كل هجوم وانطلاق قذائف دانات المدافع المضادة للطائرات من قاعدة المنصورة المجاورة لنا، او من قاعدة صواريخ كانت على مقربة من قريتنا .

كانت الصحف تظهر مليئة بصور الأسرى الإسرائيليين ، كما أذكر صورة رهيبة بعض الشيء لجثة متفحمة لطيار إسرائيلي مقيد بالسلاسل.. نسمع اسم “عبد العاطي” صائد الدبابات الذي نسف ٢٥ دبابة وحده.. عندما رأيت الدبابة عن كثب في معرض الغنائم ، بدت لنا مخيفة رهيبة أكثر بمراحل من الصور، وقد تساءلنا عن نوعية الأعصاب ومدى الشجاعة التي يجب أن يمتلكها المرء كي يواجه هذا الديناصور وهو على قدميه.. هؤلاء لم يكونوا رجالاً.. كانوا أساطير حية…


صحيح أن الحماسة أعمتنا ولم ندرك أن مسار الحرب يتغير، وأنه عندما وقف “السادات” ليحيّي الجماهير في أول خطاب له بعد نشوب الحرب، وعندما التهبت أكفُّنا بالتصفيق وكانت الشوارع خالية تمامًا، كانت الدبابات الإسرائيلية قد دخلت السويس ضمن عملية “الغزالة” التي خطط لها “شارون”، ولم نعرف الكثير عن حصار الجيش الثالث. 
وقتها كنت اسمع بأن القطار الميرى يقف فى محطة المنصورة ومليئ بالجثث والمصابين ، استمع للناس وهم يسبوا الاتحاد السوفيتى .. هو سايبنا ليه ابن … امريكا بتضرب وهو مبيدخلشى ليه ؟؟ .


ممكن نصدق الإسرائيليين الذين يعتبرون أنهم أحالوا نصرنا هزيمة،،،؟؟
لقد تركت لنا الحرب واجوائها فى نفوسنا وحتى العابنا شيئا ملموسا فهذا الدسوقى ياتى لنا بطين لنصنع منه طائرات ونتركها لتجف ونعيد طلائها بالجير ، وهذا حازم يخترع (البراشوت)- ياتى بمنديل يربط اطرافه الاربعه بخيط بطول نصف متر فى نهايته حجر صغير ويمسك المنديل من منتصفه ويلقى به لاعلى بعد مايقوم بدورانه حول نفسه عدة مرات ليضمن صعوده لاعلى نقطة ونراه ينزل ببطئ وكانه براشوت طيار اسرائيلى ، تقمصنا فى طفولتنا جيشا جنودا تحمل البنادق وتلقى القنابل .. ونلعب لعبة الحرب ، منا من يصنع الخنادق بين أكوام البرسيم الجاف وبين اعواد الذرة الجاف وحطب القطن بعد تقطيعه ووووو حكايات والعاب نتجت عن حياه جادة مليئه بالاحداث ..
هذا هو بعض ما أذكره عن تلك الحرب، وقد تعمدت أن أحكي ذكرياتي كطفل في الصف السادس الابتدائى ؛ ولأنني قرأت الكثير جدًا عن تلك الحرب بعد ذلك مما يبتعد بالمقال عن هدفه.

يكفي أنني أعددت عنها سيناريو قصص مصورة يعتمد على عشرة كتب ، وقد أردت به ألا تُنسى هذه الحرب. وان يتذكرها شبابنا وابنائنا ليس لانها حرب. لكن لاننا كنا شعب يحب بعضه بعضا، يكفى انه فى تلك الايام لايوجد جرائم ولا سرقات ..

ندعوا الله ان يعيد الينا ايام العزة والفخر والحب الدائم بين طوائف الشعب عامة 

شاهد أيضاً

سوهاج

خالد المزلقاني يكتب : أوكرانيا وضرب العمق الروسي ..!

مبدئيا أوكرانيا لا يمكنها ضرب العمق الروسي بدون مشاركة أوروبية من حلف الناتو وإذا استمر …

4 تعليقات

  1. كلمات من ذهب لاسطوره حفرها الشعب بدمه ومازال الجيش المصري يروي بدمه عزه وكرامته الشعب المصري

  2. اجمل كلمه هي كلمه أساطير حية اجمل وصف للجيش المصري العظيم

  3. أساطير حية،نعم جيشنا المصرى وقواتنا المسلحة،حولوا الأساطير إلى حقائق على أرض الواقع فى زمن كاد العالم أن يقتنع أن الاساطير انتهت،شكرا سيدى على هذه اللحظات التى جعلتنا نعيشها معك،شكرا سيدى على هذا الشعور،شكرا جنودنا البواسل الذى جعلوا هذا اليوم وهذه الحرب دائما وابدا مصدر فخر لنا،ولم يجعلوها ذكرى سيئة لنا بل جعلوها درسا مصريا لكل الشعوب،شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.