حجاج نايل
في الايام الاخيرة كنت اتابع اخبارك الصحية يوما بيوم وساعة بساعة ولحظة بلحظة منذ ثلاثة ايام اخاطب اصدقائنا في اوربا في محاولة لاخراجك من مصر وعلاجك في اي دولة اوربية ولكن للأسف فشلت كل المساعي في هذا الصدد ويتردد في اذني كلماتك حين اتصل بك في أواخر الايام وكنت دوما تبادرني أبني حجاج انت ابني وكنت تكررها كثيرا الحقيقة مش عارف اعمل ايه بعد رحيلك انت وصابر نايل ومش عارف ازاي ارجع مصر ولا ازوركم لكني دعني اتذكر انك الوحيد او من بين قلائل قمت بزيارتهم في منازلهم قبل سفري بايام لتوديعيهم ولا املك الان الا استرجاع سريع جدا كيف ومتي قابلتك
التقيته للمرة الاولي في العام 1985 وكنت طالبا في السنة الثانية في كلية الحقوق جامعة القاهرة وكانت الحركة الطلابية في ذلك الوقت في اوجها 83 -87 وقد قام امير سالم بكل جسارة بتهديد مأمور قسم قصر النيل وتحميله المسئولية حيث كان يحتجزنا داخل القسم بتعليمات امن الدولة دون علم احد واتذكر رعب المأمور يومها وقام علي الفور بترحيلنا الي سجن ابوزعبل بعد اضراب عن الطعام استمر اسبوع
ونحن مختفين وكنت ذلك القادم من عمق الصعيد البعيد بقسوته وجفائة وخشونته وانضباطه الحديدي الي رحاب القاهرة مدينة الجن والملائكة ومحملا بتجربة لسنوات مع رفاقي الجنوبيين العظماء في حزب العمال الشيوعي المصري بعد حصولي علي العضوية الاستثنائية في ذلك الحزب وانا في السادسة عشر من عمري.
الي اجواء جامعة القاهرة بكل هذا اللغط والثراء السياسي والتنوع الفكري والايدلوجي والتنظيمي ايضا فهناك عشرات التنظيمات والاحزاب من اقصي اليمين الي اقصي اليسار بما تعكسه هذه الاجواء من شحن سياسي وشحذ للافكار والمناظرات والصراعات مع قوي يمينية او يسارية تحريفية او حتي ناصرية وقومية ووفدية ودينية وامنية
كانت الساحة تعج بالاحداث والمظاهرات والمعارض والحوارات وصياح صوت فيرووز ومرسيل خليفة والشيخ امام في مكبرات الصوت بالاغاني الوطنية الملتهبة في معارض مجلات الحائط ومعارض الكاريكيتير والبوستر والاستيكيرز من دار الفتي العربي ومن اماكن اخري. التقيت امير سالم بوصفة مسئولي الحزبي الجديد في القاهرة
انا وعدد من الزملاء والزميلات الاخرين وبما انني امتلك بعض الخبرة في هذه اللقاءات الحزبية ادركت للوهلة الاولي انه مختلف هذا المسئول الحزبي ليس كرفاقنا في صعيد مصر فهم كانوا دوما متجهمين متعبين من كثرة التجوال للتأمين والهروب من المخبرين تعلو وجوهم تكشيرة الهم والثورة والتفاصيل مفلسين في معظم الاحوال
ننظم الاجتماعات في الحدائق العامة البعيدة وعلي اطراف المدن دون مأكل او مشرب يتحدثون في مقالات جريدة الانتفاض وكتب لينين لساعات طويلة بلا كلل او ملل او حتي بلا فواصل اعلانية باستثناء حرق لفائف التبغ واحدة تلو الاخري وكأنه بالفعل ان الثورة الان الان وليس غدا
ناهيك عن الجدية والصرامة المبالغ فيها والتي كانت احيانا لا تسمح بمرور نكته او طرفة بعد كل هذه الاجواء قابلني امير سالم بوجة بشوش ضحوك وكانه يعلن سياساته في اول لقاء لا تتعجل ولا تغضب ولا تحزن ولا ترهق نفسك ولا تتوتر فلازال الوقت مبكرا جدا علي الثورة الاشتراكية وفي مكان ما في احد ميادين القاهرة الكبري صعد بنا الاسانسير الي الدور العشرين تقريبا حيث مطعم وكافية جميل اصابني بالصدمة اما الصدمة الاخري فكان هذا اللقاء يجمع معنا ثلاث زميلات
وكنا لم نعتاد علي وجود زميلات في العمل الحزبي في الجنوب وتعددت الاجتماعات الحزبية بعد ذلك وكانت من اكثر الاجتماعات تأثيرا في شخصيتي في تاريخ العمل الحزبي الاهم من ذلك ان امير سالم منذ اللحظة الاولي يعطيك انطباعا قويا جدا بانه يعرفك ويصادقك منذ الطفولة فهو عبقري في تجاوز كل مساحات الغربة والبدايات ولا يسمح لك ان تعيش مغتربا في حديثه معك ولا يسمح ايضا الا ان تكون صديقه المقرب منذ الدقيقة الاولي
الي ان اعلن عن عدم استمرار امير في مسئولية هذه الخلية او اللجنة ومن اسف تابع معنا بعد امير احد الرفاق الذي بت اعتقد الان انه كان في حاجة ماسة الي علاج نفسي في ذلك الوقت لانه كان دوما يرغب في ان يقدم نفسه نموذجا للمناضل الذي لا ينام ولا يأكل ولا يشرب ويمشي عشرات الكيلو مترات فوق السحاب ويحلق في السماء ويحفر في الارض من اجل الثورة والبروليتاريا جاء العام 87 وتخرجت من كلية الحقوق
وعلي طريقة العشق في زمن الثورة انهار كل شي امامي قصة الحب الاسطورية التي كنت اعيشيها في ذلك الزمن التواصل مع الحزب البحث عن العمل الاعفاء من الخدمة العسكرية الضغوط المالية العنيفة عدم توافر المأوي والسكن لجأت الي كل الرفاق لم اجد حلا مرة اخري يظهر امير سالم من جديد وكأنه المنقذ في كل مرة ويعرض علي العمل في مكتبه كمحامي مع الصديق العظيم عبدالله خليل 1988 ولاسباب معيشية وسكنية لم استطيع المواظبة والالتزام فغادرت وبحثت عن عمل اخر بمرتب يوفر لي السكن علي الاقل في بدايات عام ٨٨
وبعد تخرجي مباشرة كنت احاول جاهدا تحديد موعد للقسم القانوني في نقابة المحامين وعلم امير سالم بالموضوع واخذني من يدي وفي سيارته وذهبنا الي النقابة ويخشونه صوته المعروفة نادي علي احد اعضاء مجلس النقابة والذي اصبح نقيبا بعد ذلك وبلهجة آمره قال له اجلس هنا ودع حجاج يقسم اليمين فاستجاب هذا العضو ضاحكا وحلفت اليمين القانونية امامه في احد الامثلة التي كان امير سالم يذهب مع اصدقائه الي اخر الدنيا لحل
مشاكلهم ومن مكان الي اخر حتي وصلت الي المنظمة المصرية لحقوق الانسان 1989 – 1991 وكنت الاقي متاعب كبير وعدم تقدير لجهودي في المنظمة وكنت اعيش حالة من الاحباط وللمرة الثالثة يظهر امير سالم ويطلب مني ان نؤسس سويا لمركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الانسان واتذكر ساعتها كان وجه امير يشع بالحماسة وبالتشجيع وبالوعود من ان هذا المركز سيحدث نقلة نوعية في العمل الحقوقي
وهذا ما حدث بالضبط وفي 1991 وحتي 1996 سنوات من مجاورة امير سالم في غرف مكتبنا في شارع الحجاز بمصر الجديدة استطعنا خلال تلك السنوات ان نفتح افاق الدولة المصرية الي قانون الجمعيات الاهلية
ووضع مناهج وأسس للتربية والتعليم علي ثقافة حقوق الانسان وتنفيذ مئات الانشطة الضخمة علي مستوي الجمهورية وطباعة جريدة حقوقية لم تظهر مثيلا لها حتي اليوم وعشرات الكتب والدراسات والمشاركات الاقليمية والدولية والاهم من ذلك كان لأمير سالم الفضل الاول في ابتكار ما يسمي تأسيس منظمات حقوقية في صورة
شركات غير هادفة للربح وفي عام 1997 انفصلت لتأسيس البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان لكن يبقي انني تعلمت من امير كمناضل داخل حزب العمال الشيوعي المصري وتعلمت من امير سالم ماهية حقوق الانسان وكيفية ادارة مؤسسة حقوقية وتعلمت منه الشجاعة والجسارة