كتب : دكتور حمدي عبدالرحمن حسن
يبدو أن زيارة الرئيس الاريتري اسياس أفورقي للقاهرة اليوم تبدو شديدة العلاقة بأزمة سد النهضة وذلك بعد زيارته لكل من أديس أبابا والخرطوم. وبهذه المناسبة تذكرت مقابلة له عام 2016 تقريبا مع التليفزيون الوطني الاريتري.
سأله إثنين من الصحفيين عن رأيه في الجدل الدائر بين إثيوبيا ومصر والسودان فيما يتعلق بسد النهضة الكبير .
قال إنه في عام 1993عندما كانت العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا في حالة جيدة ، حضر هو ورئيس الوزراء الأثيوبي ميليس زيناوي إلى القاهرة لحضور اجتماع منظمة الوحدة الأفريقية ، وأخبره ميلس أنه سيطرح قضايا مياه النيل على طاولة الحوار ، ولكن أسياس نصحه بعدم القيام بذلك لأن الوقت لم يكن مناسبا.
ولكنه عندما التقى ميلس وقت العشاء وجده يبدو غاضبًا .عندئذ سأله أسياس عن سر غضبه. رد ميلس أنه عندما أخبر بعض المسئولين المصريين أن إثيوبيا سوف تطرح قضية النيل للنقاش في القمة ، أخبره المسؤول الحكومي المصري “من أنت؟” لتفعل ذلك . بعد ذلك هدد ميلس بمعاقبة المصريين بقوله إنه سيفعل ما فعله الأتراك بسوريا والعراق.
وبغض النظر عن مصداقية هذه الرواية فإنه طبقا لرأي أسياس فإن إثيوبيا توظف سد النهضة الكبير باعتباره أداة سياسية . إنه مثل الفيل الأبيض في الغرفة لا تأخذ منه سوى عناء اطعامه والعناية به.
قد تبدو بداية فكرة معاقبة مصر وتطويع إرادتها من خلال سلاح المياه بإنشاء سد ضخم بهذا الحجم ويفوق الاحتياجات التنموية للدولة الأثيوبية مرتبطة بفكر وفلسفة ميليس زناوي. ومع ذلك فإن أصل الحكاية أبعد من ذلك بكثير .
في الواقع ، بدأت فكرة بناء سد على نهر النيل منذ وقت طويل وليس في عام 1993 ولا حتى عام 2011 كما يرجعه البعض بسبب قيام ثورة 25 يناير في مصر.
الثابت تاريخيا أنه على الرغم من العلاقات الطيبة التي جمعت بين الرئيس عبد الناصر والإمبراطور هيلا سيلاسي فقد استاء الأخير من استبعاد الرئيس ناصر له في عملية التخطيط لبناء السد العالي في أسوان. لم يكن مستغربا أن يتم الطلاق في عام 1959 بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية و الكنيسة الأرثوذكسية في الإسكندرية ، بعد نحو ستة عشر قرنا من الزواج المؤسسي.
لم يكتف هيلاسلاسي -ومن خلفه من القوى الغربية الكارهة لتوجه ناصر التحرري المناهض لقوى الاستعمار- بذلك ولكنه بدأ التخطيط لإقامة عدة سدود على النيل الأزرق وروافده ، حيث ساهم بمبلغ 10 ملايين دولار من الخزانة الإثيوبية في دراسة أجرتها إدارة الاستصلاح الأمريكية وصدر تقريرها النهائي في عام 1964 وعنوانه :” الأرض وموارد المياه في حوض النيل الأزرق : إثيوبيا”.
ويذكر الدكتور رشدي سعيد في كتابه عن نهر النيل أن المقترح الأمريكي في ذلك الوقت هو إقامة 33 سدا أحدها في الموقع الحالي لسد النهضة وكان يطلق عليه آنذاك سد الحدود .
لم تكن سعة الخزان المقترحة في ذلك الوقت تتجاوز 14 مليار متر مكعب. فما الذي دفع أبناء ميلس لزيادة الطاقة الاستيعابية لخزان سد النهضة الكبير لتصبح أضعافا مضاعفة 74 مليار متر مكعب. قد يبدو الأمر مثيرا للشكوك وهو ما يعني أن الهدف الحقيقي ليس هو الكهرباء ولا حتى الري .
ولكن الهدف الحقيقي هو الالتفاف على المحروسة .
وهل يكرر الأثيوبيين كما وعد ميلس تجربة سد إليسو التركي الذي بدأ أردوغان بملئه العام الماضي ضاربا عرض الحائط مطالب كل من سوريا والعراق الجريحتين.
استمعت بالأمس إلى حديث أحد الصحفيين الأتراك المقربين من أردوغان وهو يقول أن الهدف التركي في أفريقيا ليس الوقوف عند حدود ليبيا والصومال وإنما الوصول إلى تشاد والسنغال ثم كينيا بعد ذلك من خلال إنشاء القواعد العسكرية .شرق المتوسط وساحل أفريقيا الغربي على المتوسط وخليج عدن .
لم تكن غضبة ماكرون من أردوغان بسبب حركته في ليبيا وشرق المتوسط فحسب ولكن الأهم هو طموحه من أجل التوسع في عقر النفوذ الفرنسي الفرنكفوني في الساحل وغرب إفريقيا. دول الجوار غير العربية امتد نفوذها وتغول. ليست تركيا وحدها وإنما إيران وإسرائيل كذلك ولاتنسوا حديث البقر عندما خاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي أعضاء البرلمان الأثيوبي عن مزايا البقرة الاسرائيلية ومستقبل البقرة الأثيوبية في ظل العلاقات الوثيقة بين البلدين. كلها تساؤلات مشروعة بمنظور المصلحة الوطنية المصرية.
فهل يستطيع الرفيق أفورقي التوسط في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتفاوضة أم أن المسألة تتجاوز سد النهضة في إطار لعبة الأمم الكبرى والمتوسطة من أجل كسب السلطة والنفوذ في جوارنا الاستراتيجي.