الأربعاء , نوفمبر 20 2024
مختار محمود

إذا لم تكن معى فأنت عدوِّى!

مختار محمود

“مع كل اختلافي وتناقضي معك في الرأي، فأنا مُستعدٌ أن أموت ليس من أجل رأيك، ولو كنتُ أعتقد سُخفَه، ولكن من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك”..

هكذا كان يفكر ويتعامل الفيلسوف الفرنسى “فولتير”.

أما الفيلسوف البريطانى “جون ميل سيتوارت” فكان يؤمن بأن “الكثرة ليستْ دليلا على الصواب، وليستْ القلة دليلا على الخطأ، ولو اجتمع العالم قاطبة على رأي واحد، وخالفهم فيه شخصٌ واحدٌ، لما جاز إسكاته، فلو كان على صواب، لحرم المجتمع نفسه من فرصة التغيير للأفضل، وإن كان على خطأ، لحرم المجتمع نفسه من مقارنة واختبار ماهو عليه من صواب”.. هكذا يفكر الفلاسفة والمفكرون والكتاب المتقدمون الذين عاشوا فى قرون ماضية.

لم يكن أحدٌ يصادر رأى غيره ولا يحتقره ولا يزدريه، ولا يصمه بما ليس فيه، ولا يتهمه بما لم يدر فى خلده من الأساس. ورغم مرور كل هذه العقود على نشأة هذه التجليات الفكرية التى تحتفى بالاختلاف فى الرأى ولا تعلن الحرب على صاحبه، إلا أن العقلية العربية عمومًا والمصرية بصفة خاصة فى أسوأ حالاتها، حيث تنتهج منهجًا مغايرًا تمامًا، وتتبنى نظرية: “إن لم تكن معى، فأنت ضدى، بل وخصمى اللدود وعدوى المريب إلى يوم الدين”.

لا يختلفُ فى ذلك مَن يَحسبون أنفسهم على التيار التنويرى أو التيار الدينى بتنويعاته المختلفة، بدءًا مما يعتبرون أنفسهم “وسطيين ومعتدلين”، وانتهاءً بأهل الغلو والتشدد، أو أى تيار آخر. أشدُّ الناس فى مصر عُدوانًا على حرية الرأى والتعبير هم أهل الفكر والكتابة والثقافة وليس غيرهم، وتلك – وأيمِ الله- لإحدى الكُبر!

فى مصر يجب أن تكون مُصنفًا، إمَّا أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ليست هناك منطقة وُسطى، يجب أن تكون تابعًا لأيدلوجية واحدة ثابتة جامدة لا تتغير بتغير الزمان وتقادم السنين، ليس بوسعك أن تكون حرًا فى آرائك وكتاباتك، يجب أن تكون مُقيدًا فيما تكتب حتى لا تقع فى الفخ، فخ الاختلاف، الذى يقودك سريعًا إلى ما لا تحب ولا ترضى.

إذا انتقدتَ شخصًا أحمق يحسب نفسه على شلة العلمانيين والتنويريين، وأظهرت حقيقته وحقيقة ما يكتبه، وأنه مدلس، وينقل مقالاته وكتاباته عن غيره، فأنت “إرهابى متطرف”، ويجب منعك فورًا من الكتابة! وإذا انتقدتَ الأزهر الشريف أو وزارة الأوقاف تكون قد اقترفت كبيرة من الكبائر، وسوف تصبح “عدو الله ورسوله والمؤمنين”! وإذا انتقدتَ مثلاً عملاً فنيًا فأنت مُغرض دون أدنى شك، أو بينك وبين أحد صُناع العمل خُصومة.

شخصيًا.. فوجئتُ بمن يحسبنى على الإسلاميين تارة وعلى الإسلامويين تارة أخرى لمجرد انتقادى لبعض قناعات المحسوبين على تيار التنوير، كما صدمنى تصنيفى “ملحدًا”، على خلفية كتابة سلسلة مقالات عن “بزنسة الأديان”، وكيف أن بعض رجال الدين الموتورين والمتشددين جعلوا من الأديان عبئًا ثقيلاً على الإنسانية!

لن أكون مبالغًا إذا قلت: إن السلطة فى مصر أكثر عقلانية واعتدالاً من أولئك الذين يتباكون على حرية الرأى، ويطالبون بالتمكين لها، ويزعمون أنهم يحاربون من أجلها، ويناضلون فى سبيلها، ولكن يبدو أن أولئك يقصدون حرية الرأى الخاصة بهم فقط دون غيرهم. حرية الرأى غائبة عن التيارات الفكرية والثقافية والدينية المتنافرة، بل غائبة داخل التيار الواحد، فكلٌّ منهم يعتقد أنه يملك الحقوق الحصرية للحقيقة المُطلقة، وليس من حق أحد أن يطلق رأيًا مغايرًا لرأيه؛ فالتهم المُلفقة حينئذ سابقة وسريعة التجهيز.

من العار.. أن يكون المثقفون ورجال الدين والفن والثقافة فى مصر هم أعدى أعداء حرية الرأى والتعبير، وأن يصنف كلٌّ منهم غيره وفق هواه المتهافت، ومنطقه المتداعى! فبل “فولتير” و “سيتوارت” بألف عام.. صكَّ الإمام الشافعى – رحمه الله- نظرية خالدة وقاعدة ذهبية بقوله المأثور: ” رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ما ينبئ عن عقلية متحضرة قادرة على استيعاب جميع الرؤى والأفكار دون إقصاء أو اصطناع للخصومة والفُجر فيها، وهى النظرية التى يتغافل عنها رجال الدين المعاصرون ويديرون ظهورهم لها، ولا يترددون فى تكفير وإباحة دم من يخالفهم الرأى! وإذا سألتنى عن مكمن الداء فسوف أجيبك قائلاً:

إن الداء يكمن فى أن كل فريق ليس مشغولاً أو مهمومًا بصلاح منطقه وصحة فكره، قدر انشغاله وخوفه على مصالحه الشخصية، نعم.. كلٌّ منهم يدافع عن مصادر استرزاقه، وليس عن قناعاته الفكرية، صالحة كانت أو فاسدة!

حرية الرأى والتعبير لدى العقلية المصرية، مهما تعاظمت درجة ثقافتها، فى خطر، إن لم تكن ماتت إكلينيكيًا، وتحتاج أجهزة تعويضية وأدوية قد لا تكون متاحة، ومعجزة لإعادتها إلى الحياة.

فيا كلَّ مشغول بالفكر والثقافة والكتابة، كن فى نفسك أنت، ولا تشغلها بغيرها، لا تكن متطرفًا مع من يخالفك الرأى، ولا إرهابيًا مع مَن يعارض أطروحاتك، بل إنك لو جادلته بالحُسنى فقد تصلان معًا إلى كلمة سواء. اترك لغيرك الحرية التى تطلبها لنفسك، لا تغتر بعقلك، فقد يكون عقل غيرك أكثر نضجًا وحكمة من عقلك، وقد يكون منطقه أرجح من منطقك. واعلم أن المصادرة على رأى غيرك ضعف ووهن، وأنَّ فرض الوصاية عليه خِسَّة، وأن التحريض عليه رُخص. تعامل مع رأى غيرك بحُسن نية ورحابة صدر.

دعك من التلاسن وكيد النساء والتنمر والتحرش والتطاول، فهذا ليس من شيم الكبار الذين يخلدهم التاريخ، وتحتفى بهم الإنسانية أحياءً وأمواتًا. اختلافُ الآراء والرؤى، طالما بعُدَ عن المصالح العليا للوطن وأمنه القومى، لا يجب أن يفسد للود قضية..

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.