كنت قاب قوسين او ادنى أن أقصف بقلمي وأغلاق منصاتي على صفحات التواصل الاجتماعي لِما رصدته من تنمر وجرح للمشاعر تفشى بين رواد هذا العالم الافتراضي.
لم أعد أهتم بالقضايا السياسية او الدينية أو حتى الاجتماعية بقدر اهتمامي ببحث هذه الظاهرة الخطيرة التي قد تعصف بعلاقات إنسانية بنيت زيفاً على محبة ظاهرية هشة فضحتها الأيام وهي ظاهرة جرح المشاعر وشخصنة الأمور العامة والكيل بمكيالين والتنمر على الآخرين تذكرت معها كلمات العالم النفسي بول إيكمان مؤلف الكتاب الشهير” أطلس المشاعر” حين قال :” تستطيع ان تعرف شخصية الانسان مما يقوله عن الآخرين ، اكثر مما يقول عنه الاخرون”.
الجرح النفسي للمشاعر هو أصعب أنواع الجروح التي تترك آلام قد يصعب الشفاء منها بسهولة وأصعب الجروح هي التي تأتي من أقرب الناس لنا.
وأصعب المجروحين هم الذين يُجرحون مما لا يُتوقع أن تأتي الجراح من قبلهم والجرح يترك أثره في الجارح والمجروح معًا .
غالبية الجارحين لا يشعرون بتأثير كلماتهم وسلوكياتهم على نفوس الاخرين . على أنه إن وجد من الجارحين من يستفيق شاعرا بخطأه غالبا ما يكون قد فوات الأوان.
قام الباحث ماثيو ديلان ليبرمان أستاذ علم الأعصاب المعرفي الاجتماعي في قسم علم النفس جامعة لوس انجلوس بكاليفورنيا بعمل أبحاث في موضوع جرح المشاعر النفسية، حيث قام بفحوصات دقيقة للمخ ورسم خرائط لوظيفته لدى أشخاص يشعرون بضيق نفسي واجتماعي، وكشفت النتائج أن مناطق المخ التي تعمل حين يشعر الإنسان بألم جسدي تعمل أيضًا حين تجرح مشاعر ذلك الشخص.
هذا وقد أجرى ليبرمان وزملاءه في الدراسة فحوصات على 13 طالبًا متطوعًا، وضعوا رؤوسهم داخل جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي.
وتوصل ليبرمان أن تفعيل الضيق والكآبة يمكن أن يؤدي جزئيًا إلى إغلاق بعض المناطق في المخ مسؤولة عن تسجيل ورسم هذا الضيق، وغالبًا ما يأتي هذا من جرح المشاعر أيضًا.
أما الباحثين البريطاني”د. أندرياس بارتلز” فقد قام بإجراء تجربة على 17 رجل وامرأة ادّعوا أنهم في حالة “حب” وتم فحصهم بالرنين المغناطيسي أيضًا وهم ينظرون إلى صور من يحبونهم، فأظهرت النتائج غزارة في تدفق الدم الغني بالأكسجين إلى مناطق الدماغ المسؤولة عن المشاعر الإيجابية .
فسر د. أندرياس هذه التجربة قائلاً “أن مشاعر المحبة تبدأ في المخ وليس بالقلب”.
يؤكد الأستاذ الدكتور “محمد أحمد عويضة” أستاذ الطب النفسي بالقاهرة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تؤثر فيه الكلمات، كلمة واحدة تسعده، وكلمة أخرى قد تسبب له الشقاء.
وهذه الكلمة تؤتي آثارها في الجسم كله بالسلب أو الإيجاب، فالكلمات الحلوة المشجعة تعطيه نشاطًا زائدًا والكلمات الجارحة أو التي تقلل من شأن الإنسان ومن قدره وتذكر عيوبه –ولا سيما أمام الآخرين- تجعله كسول ومهزوم بل وقد تجعله قعيدًا في الفراش وقد حلت عليه كل أمراض الدنيا.
تفسير ذلك أن الكلمات المشجعة والمحفزة لها تأثير أيضًا على بعض مراكز المخ والتي تساعد على إفراز مادتي الأندروفين وانكيفالين اللتين تؤثران على مراكز الإنفعال وتؤثر بدورها على إفراز الغدد الصماء وعلى الجسم كله فلا تجعله يشعر بالألم وتمد الإنسان بالطاقات المتجددة. ويؤكد الدكتور “عويضة” على أنه لا عجب إن وجدنا أن الكلمة الحلوة الطيبة التي تشجع الإنسان، تساعد على إستعادة الجسم لوظائفه وتعمل على ضبط معدل الضغط لدى مريض الضغط وتضبط السكر في الدم ومن كان في صدره ضعف أو ضيق في التنفس تجعله أكثر قدرة على التنفس.
إن معظم الأبناء المتفوقين في أي مجالات الحياة -حتى الروحية منها- كان وراءهم أمهات يكثرن من جمل الإطراء والتشجيع التي جعلتهم لا يشعرون بالمتاعب الذهنية أو الآلام الجسدية، فضاعفوا من ساعات دراستهم وعملهم حتى حققوا أهدافهم والزوجة التي تقول كلمة طيبة لزوجها قبل ذهابه صباحًا للعمل تمنحه طاقة إيجابية تجعله أكثر قدرة على الإنجاز في العمل أو العكس.
والزوج الذي يُثني على أداء زوجته يخلق منها زوجة وأم ناجحة.
وقد علمنا الحكيم سليمان في سفر الأمثال فن التعامل مع الآخر فيقول “المحتقر صاحبه هو ناقص الفهم أما ذو الفهم فيسكت” (أمثال 12:11). وأيضًا “من يحتقر قريبه يخطئ ومن يرحم المساكين فطوبى له” (أمثال 21:14).
وعن الاستهزاء بالآخرين الأقل منّا يقول “المستهزئ بالفقير يُعير خالقه، الفرحان ببلية لا يتبرأ” (أمثال 5:17).
هذا وقد ذاق ربنا يسوع المسيح نفسه من البشر “جرح المشاعر”، فجُرح من أحباءه وتركه تلاميذه على الجلجثة وقال: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”.
وعند الصليب لم يجد أحد معه سوى أمه ويوحنا، فهو يشعر بالمجروح لأنه جرح في بيت أحباء حين قال: ليس لنبي كرامة في وطنه، ومحترف جرح المشاعر يستبدل لغة الحب والحوار إلى لغة التحقير وتحطيم المعنويات فيخسر النفوس بدلاً من أن يربحها “رابح النفوس حكيم” (أمثال 30:11).
عزيزي القارئ.. عندما أنزل الله وصاياه العشر على موسى النبي لسن قوانين لتعاملات شعبه كانت الوصية الثانية بعد محبة الله هي محبة القريب كالنفس ، فإن أحببته كنفسك لن تجرحه مطلقاً لأنه نفسك ، فهل يعقل أن تجرح نفسك بنفسك .
وكما علمنا ربنا يسوع المسيح ، عامل الناس كما تحب أن يعاملونك ، إن وضعت قدمك في حذاء أخيك ، هل تقبل أن يُكسر قلبك وتُجرح مشاعرك .
في النهاية أقول لمن يجرح متصورًا أنه يدافع عن حق الله أو المجتمع أفهل تترفق على الخليقة كربها