الجمعة , نوفمبر 22 2024
البابا كيرلس السادس

البابا كيرلس السادس…..علامة مضيئة في تاريخ الحياة الرهبانية (1959-1971م)

د.ماجد عزت إسرائيل

الكنيسة القبطية مؤسسة دينية ذات تراث عريق متميز بين جميع كنائس  العـالــم؛ يمتد لأكثر من ألــــفي عام،مما يميزها بمسحة ديـمقراطية،حتى ولو كانت فى أشد محن الاضطهاد،وساعد ذلك في صنع القرار داخل المـؤسسة الكنيسة، وتأخذ هذه المؤسسة شـــكلا هرميا يأتـي على قمته البطريرك أي (البابا)،الذي يعتبر خـليفة السيد المسيح ورسله.

والتاريخ الكــنسي القبطي يسجل لنا(118) بطريركــاً، جاءوا من عدة أديرة في أنحاء مصر، ومن بين هؤلاء جاء المتنيح قداسة البابا “كيرلس السادس”، الذى أشتهر بين بطاركة الكنيسة برجل الصلاة والمعجزات.

والبابا كيرلس السادس اسمه العلمانى (قبل الرهبنة) “عازر يوسف عطا”،وقد ولد فى 2 أغسطس 1902م، بقرية طوخ النصارى التابعة لمدينة دمنهور،محافظة البحيرة،وكان والده ناسخاً وجامــع للــتراث القبطى،ومن المترددين هو وابنه عازر على زيارة الأديــرة بوادى النطرون، وخاصة ديــر البراموس،وكان عازر

كثيراً ما كان ينام على حجر بعض الرهبان فكان من نصيبهم، وبالفعل بعد أن حصل على “البكالوريا” أى الثانوية العامة حاليّا عام 1921م،عمل فترة لدى شركة “كـــوك شيبينج”، وكان نموذجـاً للامانة،والمحبة والطاعة والإخلاص،وظل يعمل حتى سلك طريق الرهبنـة عـام1927، وعرف باسم “مينا البراموسى”.

وكانت الرهبنة فى حياته تعنى حياة الوحـدة والزهد والنسك والصلاة والتسبيح،وهي فلسفـــة الـديانة المسيحية،والجامعة التي تـخرج فيها مـئات البـطاركـة والأساقفـة الذين قادوا الكنيسة بالحكمة.

ويعد البابا كيرلس السادس البطريرك رقم (116) (1959- 1971م) من أول البطـاركة الــذين تم اختيـارهــــم طبقاً لــــــــ “لائحـة”  2 نوفمبر1957م “حيث تم انتخابه من بين ثلاثة مرشحين

وهـم: القمص دميان المحرقى (دير المحرق)والقمص أنجيلوس المحرقى (دير المحرق)، والقمص مينا البراموسي (دير البراموس). 

وبعد قـداس القرعة الـهيكيلة فى(19 إبـــريل1959م)، تم اختياره بطريركـاً باسم البابا”كيرلس السادس”، وتم تجليسه على كرسى مارمرقس فى (26 إبريل 1959م ) حتى رحيله عن عالمناً الفانى فى( 9 مارس 1971م).

ومن الجدير بالذكر،تزامنت فترة جلوس البابا كيرلس السادس البطريرك رقم 116(1959-1971م) على كرسى مارمرقس ،مع جلوس الراحل الرئيس “جمال عبد الناصر”على كرسى رئاسة جمهورية مصر في يونية 1956 (بعد الاستفتاء على الدستور وعلى رئاسته حتى رحيله عن عالمناً الفانى في 28 سبتمبر 1970)، وقد عبر الكاتب السياسى”محمد حسنين هيكل” فى بعض مقالاته، عن هذه العلاقة قائلاً

“كانت العلاقة بين البابا كيرلس والرئيس جمال عبد الناصر ممتازة وعـــلاقات إعجاب متبادل، وكان معروفـاً أن البطريرك يستطيع مقابلة جمال عبد الناصر فى أى وقت، يشاء، وكان كيرلس حريصاً على تجنب المشاكل،وقد استفـــاد كثيراً من علاقته الخاصة بعبد الناصر فى حل العديد من المشاكل”.

كما ذكر القس”رفــائيل آفامينا” فى كتابه “مذكراتى عن حياة البابا كيرلس السادس” مدى حب البابا كيرلس السادس لمؤسسة الرئاسة،من خلال  لقاء جمع ما بين البابا والرئيس”جمال عبد الناصر

حيث تحدث البابا كيرلس للرئيس عبد الناصر قائلاً:” إنى بعون الرب سأعمــــل على تعليم أبنائى معرفة الرب،وحـــب الوطن، ومعنى الأخوة الحقة ليشب الوطن وحدة قــوية لديها الإيمان بالرب والحب للوطن”.

ولا تنسى الكنيسة القبطية المصرية الموقف الوطنى للزعيم “جمال عبد الناصر” الذى أصدر قراراً بإنشاء الكاتدرائية المرقيسة بالعباسية، ووضع حجر تأسيسها فى 24 يوليو 1965م،حتى تتماشى مع مكانة الكنيسة المصرية”.

وقد عبر “محمد حسنين هيكل” فى كتابه “خريف الغضب” قائلاً: كان الرئيس يدرك المركز الممتاز للكنيسة القبطية ودورها الأساسى فى التاريخ المصرى، ثم أنه كان واعياً بمحاولات الإستقطاب التى نشط لها مجلس الكنائس العالمى

وهكذا فإنه قرر على الفور أن تساهم الدولة بنصف مليون جنية فى بناء الكاتدرائية الجديدة، نصفها يدفع نقداً ونصفها الآخر يقدم عيناً بواسطة شركات المقاولات التابعة للقطاع العام والتى يمكن أن يعهد إليها بعملية البناء…”

كما ساهم أبناء رئيس الجمهورية مادياً فى بناء الكاتدرائية بتبرعهم بقدر معين من مصروفهم بتشجيع من والدهم (الرئيس عبد الناصر)، وفي هذا يذكر الكاتب الصحفى“محمود فوزى” فى كتابه “البابا كيرلس وعبد الناصر” قائلاً: “تعود قداسة البابا أن يزور الرئيس عبد الناصر فى منزلة

وفى زيارة من هذه الزيارات .. جاء إليه أولاده، وكل منهم يحمل حصالته وقفوا امامه فقال الرئيس لقداسته :

” أنا علمت أولادى وفهمتهم إن اللى يتبرع لكنيسة زى اللى يتبرع لجامع، والأولاد لما عرفوا إنك بتبنى كاتدرائية صمموا على المساهمة فيها، وقالوا حنحوش قرشين،ولما ييجى البابا كيرلس حنقدمهم  له، وأرجوا لا تكسفهم وخذ منهم تبرعاتهم ..”.

وفى حفل إفتتاح الكاتدرائية المرقيسة بالعباسية فى(25 يونية 1968م)، توجت العلاقة بين الكنيسة والسلطة السياسية حيث حضر الرئيس”جمال عبد الناصر” رغم مرضه،وإمبراطور الحبشة (أثيوبيا) “هيلا سلاسى”

وممثلو الكنائس العالمية. وفى 26 يونية 1968م دشن قداسة البابا كيرليس مذابح الكاتدرائية بصلاة القداس

كما أودع رفات مار مرقس الرسول التى أحضرها من ايطاليا تحت هيكلها الكبير.

ويذكر التاريخ المصرى الموقف الوطنى للكنيسة القبطية، من أعلن الرئيس عبد الناصر تنحيه عن مؤسسة الرئاسة،أثر نكسة 5 يونيو 1967م وهزيمة الجيش المصرى، حيث يصف لنا “القس رفائيل افامينا” فى كتابه مذكراتى عن حياة البابا كيرلس السادس هذا المشهد قائلاً

“فى صباح يوم 9 يونيو 1967 م صلى  البابا القداس رافعاً قلبه لأجل مصر وشعب مصر وكان حزيناً , ثم ذهب مباشرة إلى بيت السيد الرئيس عبد الناصر وصحبه ثلاثة مطارنة وحوالى 15 كاهناً، ووصل البابا لمنزل الرئيس بصعوبة من شدة الزحام، ولم يستطع مقابلته…. ،فطلب الرئيس أن يكلم البابا بالتلفون وقال ل:

” أنا عمرى ما تأخرت فى مقابلتك فى بيتى فى أى وقت ، ولكنى عيان والدكاترة من حولى ”

فقال له البابا كيرلس : ” طيب عاوز أسمع منك وعد واحد ” .. فرد عليه الرئيس : ” .. قل يا والدى : ” فقال قداسته: “الشعب بيأمرك أنك ما تتنازلش” .. فقال له الرئيس : ” وأنا عند أمر الشعب وأمرك”.

وبعدها غادر البابا كيرلس السادس بيت الرئيس وفى طريق عودته طلب الإستعداد لضرب الأجراس،وبعد قليل أعلن السيد “أنور السادات “رئيس مجلس الأمة “أن الرئيس جمال عبد الناصر نزل على إرادة الشعب “.

على أية حال،عبرت الكنيسة المصرية عن تأيدها للرئيس جمال عبد الناصرعقب احتلال إسرائيل لشبة جزيرة سيناء،حيث أصدر قداسة البابا “كيرلس السادس“تعليمته لشعب الكنيسة بالصلاة من أجل صمود مصر

كما طلب من الأمبراطور “هيلاسيلاسى” أن يتخذ موقفاً مؤيداً لقضية مصر فى الأمم المتحدة،وأيدت الكنيسة قرار مؤسسة الرئاسة “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، وخسرت إسرائيل الكثير خلال حرب عرفت تاريخياً باسم الإستنزاف (1967-1970م).

وبكت الكنيسة القبطية المصرية،كما بكى شعب مصر جميعاً، وحزن قداسة البابا كيرلس السادس ،عقب سماعه نبأ وفاة الزعيم “جمال عبد الناصر” فى(28 سبتمبر 1970م)

وإعـلنت الكنيسة القبطية الحداد على وفاة الرئيس، وأصدر البابا كيرلس،أوامــره لجميع الكنائس والأديرة بدق الأجراس الحزاينى ،وأن تتشح جميع الكناس بالسواد طول فترة الحداد

كما تلقى البابا برقيات عزاء من بعض ملوك و رؤساء العالم .

وفى(9 مارس1971م) تنيح قداسة البابا “كيرلس السادس“(116)، وإذاعت صوت إمريكا خبر نياحته

قائلة: “توفى الصديق الوفى لعبد الناصر،واعـــــربت مؤسسة الرئاسة عن حزنها لوفاته، وحضر وفد من الرئاسة برئاسة الراحل الرئيس محمد أنور السادات” (1971-1981م) لتقديم العزاء للقائمقام البطريركى، وأعضاء المجمع المقدس.

وأخيراً هذه مصر التى عشنا فيها، عبر أكثر من 14 قرناً من الزمان؛ تجمع المصريين جميعاُ تحت جناحيها دون تفرقة أو تميز، فئة عن فئة آخرى، يسعى الجميع لتقديم نفسه فـداء لوطننا العزيز، فهل تستطيع مؤسسة الرئاسة الحالية إعادتنا لـــهذا الزمن الجميل؟ وهذا ما نتمناه.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.