مدحت موريس
عنتر هو اسمى الذى لقبنى به بعض الفتيان عندما يلعبون فى شوارع وحوارى الاسكندرية والحقيقة اننى لم اكن اعلم ان اسم عنتر هذا يخصنى لكننى فهمت انه اسمى من احاديث الفتيان فيما بينهم وهم يلعبون الكرة خاصة عندما اقتحم – دون ان اعلم – ملعب الكرة الذى هو هو فى الغالب حارة سد.
لكننى اكتشفت شيئاً آخر اكثر اهمية وهو ان نفس هؤلاء الفتيان كانوا ينادون الكلاب الاخرى ايضاً بنفس الاسم …عنتر. وعلى ذلك فان كل كلاب المنطقة هى عنتر!!!
لم اهتم بالامر كثيراً فلا اهمية للاسم فى عالمنا – نحن الكلاب – خاصة عندما نكون كلاب شوارع او كما يحلو لهم ان يسمونا…كلاب ضالة.
والحقيقة اننى لا اعرف معنى لهذه التسمية فاذا كنا بالفعل كلاب ضالة فاى طريق كنا نسير فيه وضللنا عنه؟ فنحن لسنا باطفال خرجوا بصحبة الاهل ولسبب ما ضلوا الطريق الى المنزل ، ايضاً لسنا كبعض البشر الذين حادوا عن الطريق القويم فيلقبونهم بالضالين.
لقد ولدنا فى الشوارع وسنمضى حياتنا فى الشوارع…تلك هى حياتنا التى عرفناها وطريقنا الذى عشناه منذ تفتحت اعيننا على الحياة. اما عن الاسم سواء كان عنتر او غيره فقد يهم البشر لكنه لايهم الكلاب باستثناء “لايكا” ومن على شاكلتها … تلك الكلاب المرفهة التى تعيش مع بعض الاسر الثرية…كلاب مرفهة مدللة تجد طعامها ومأواها دون تعب او شقاء، كلاب لا تعانى او تقاتل من اجل كسرة خبز فى ذلك الزمن الصعب الذى تتقاتل فيه الكلاب والقطط من اجل الحصول على كسرة خبز ضلت طريقها الى صندوق القمامة صحيح ان المطاعم قد انتشرت بكثرة فى الآونة الأخيرة خاصة مطاعم الوجبات السريعة او مطاعم الفاست فوود كما كانت تسميها لايكا الا ان تزايد عدد الكلاب والقطط فى الشوارع بالاضافة الى فئة جديدة من بنى البشر اسموهم اطفال الشوارع ومن العجيب انهم لم يطلقوا عليهم الاطفال الضالة هؤلاء صاروا يشاركوننا الصراع على صناديق القمامة.
على الرغم من سخريتى من الكلاب ذات الاسم كونها كلاباً مرفهة لا تعرف معنى شقاء الحياة ومعاناتها الا ان لايكا كانت الاستثناء الوحيد فى حياتى فهى صديقتى المقربة وعرفتها منذ كانت تأتى مع صاحبتها فى حديقة الشلالات بالاسكندرية وكنت المح نظرات الاعجاب فى عينيها نظراً لقوتى وسرعتى مقارنة باقرانى ومنذ ان تصادقنا تغير اسلوب حياتى لا سيما فيما يتعلق باسلوب الطعام فقد تذوقت لاول مرة اطعمة اتت بها لايكا…اطعمة غريبة محفوظة فى علب عليها صورة كلب وعلمت انها اطعمة خاصة بالكلاب علاوة على الاصناف الاخرى التى كانت تأتينى بها من بقايا طعام اصحابها فراق لى الطعام المطبوخ الذى يعدونه البشر ويأكلونه.
تآلفت مع لايكا يوماً بعد يوم ومثلما كنت احسدها على استقرارها فى حضن اسرى دافىء وطعام نظيف وفراش ناعم كانت تحسدنى هى على الحرية التى اعيشها ومغامراتى التى لا تنتهى والتى تجعل للحياة معنى كما كانت تقول. واتى يوم اخبرتنى فيه لايكا انها ستتركنى وتترك البلد كلها وسترحل مع اسرتها الى بلاد بعيدة فى الناحية الاخرى من العالم وتقبلت الامر صاغراً فماذا يجدى الاعتراض او الرفض…وغادرتنى لايكا تاركة غصة فى حلقى…ومضت الايام بعدها اعيش مغامراتى اليومية وافتقد لايكا التى كنت احكى لها تلك المغامرات…حتى اتت ليلة كانت مغامراتى للحصول على طعام كلها فاشلة وذهبت لابحث عن النوم فى تلك الليلة الباردة الممطرة وما اصعب النوم مع معدة خاوية جائعة…
وتذكرت لايكا وسررت انها لا ترانى على هذا الحال لا شك انها تنعم بكل شىء فى البلد التى سافرت اليها فقد قالت ان الاسرة ستسافر من اجل الحصول على حياة افضل….انطلق صوت اخرجنى من افكارى كان صوت لسارينة سفينة فقد كنت نائماً قريباً جداً من الميناء…توقفت عن التفكير برهة ثم لمعت عيناى بفكرة تبدو رائعة ..ولماذل لا اسافر من اجل حياة افضل؟ فما اسهل ان ادخل من بوابة الميناء فهم يطلبون تصاريح الدخول من البشر فقط اما الحيوانات فمن الواضح ان لها حق الدخول يتبقى فقط التسلل الى احدى السفن.
كان صعودى لاحد السفن التجارية اسهل مما تصورت وظللت مختبىء فى احدى الغرف الصغيرة بباطن السفينة لمدة لا اعرف مداها وانا اقاوم شعورى بالجوع الشديد واقاوم ايضاً افكاراً مرعبة لرد فعل الناس اذا ما تم اكتشاف وجودى فهل سيلقوننى فى جوف البحر مثلاً ام لعلهم سيكونون اكثر رحمة ويكتفون بربطى وضربى لكن لم يطل تفكيرى كثيراً فقد اضىء نور الغرفة فجأة ورأيت وجهاً وسمعت صوتاً يصدر شهقة عالية وهو يتمتم بكلمات لم افهمها لكن رد الفعل بصفة عامة لم يكن ليثير خوفى بل على العكس كان مطمئناً الى حد كبير، وبالفعل اصبح لى ولاول مرة صديقاً من بنى البشر احاطنى برعايته وقدم لى الطعام والشراب محتفظاً بسر وجودى على ظهر السفينة وهنا شعرت بنفس المشاعر التى تشعر بها “لايكا” تجاه الاسرة التى تعتنى بها….
ايام طويلة مرت والرجل يحيطنى برعايته حتى اتى يوم فهمت فيه من كلماته وهو يربت على ظهرى اننا على وشك الوصول الى نهاية الرحلة وعلى عكس سهولة البداية فى دخول الميناء وصعودى للسفينة كان خروجى من السفينة ومن ميناء الوصول مغامرة غاية فى الصعوبة فكلما رأتنى عين اسمع اصواتاً صاخبة بل وركض البعض خلفى وافتقدت الشجاعة التى كنت عليها فى وطنى واكتشفت ان الغربة قد اخذت الكثير من جرأتى وشجاعتى لكننى استكملت الركض حتى وصلت الى منطقة هادئة ونظرت حولى فاذا بشوارع ضخمة نظيفة وهادئة…
شوارع تكاد تخلو من المارة والسيارات على قلتها تسير مسرعة وانبهرت عندما لمحت اكثر من سيارة يطل منها وجه كلب من بنى جنسى واستمر ركضى حتى وصلت الى منطقة شوارعها اصغر وبدأت ارى بنى البشر يسيرون فى كل الاتجاهات لكن المثير اننى لفت نظر الجميع بلا استثناء ولكن ما لفت نظرى انا هو ان الكثيرين من هؤلاء البشر يشدون حبلاً فى نهايته كلب نظيف جميل تبدو عليه علامات الصحة والرفاهية فكل الكلاب هنا مثل “لايكا” يعيشون مع ذويهم. قادتنى معدتى الخاوية الى منطقة بها مطاعم كثيرة وامام احد صناديق القمامة جلست لاتناول طعامى بعدما اخرجته بسهولة فلم اتصارع مع اى كلب او قطة لاحصل على طعامى وكان هذا امراً غريباً لكن الاغرب هو ان ارى بعضاً من بنى البشر هنا ينبشون القمامة للحصول على طعامهم. وبينما كنت مسترخياً بعد وجبة شهية واذا بشبكة تسقط علىِ وتشل حركتى لاجد نفسى فى النهاية داخل صندوق سيارة . امضيت ساعات فى مكتب الشرطة وهم يبحثون اوراقاً ويفتشون فى عنقى عن شىء يثبت هويتى وخشيت ان يأتوا بمترجم يفهم لغتى لكى يكتشفوا حقيقتى لكنهم لم يفعلوها…
انتقلت الى مستشفى او دار للرعاية سمها ما شئت فخضعت لفحوصات وتطعيمات وتنعمت بفراش مريح ونظيف وطعام شهى ووجبات منتظمة وبعد ايام اتت سيدة رقيقة متوسطة العمر فقدمونى اليها وبدأت تربت على ظهرى فى حنان وتداعبنى ثم وقعت على مجموعة من الاوراق واخذتنى معها بعدما البسونى طوقاً يحمل اسمى الذى لم اعرفه بعد…شعرت بدفء مشاعر تلك السيدة الحنون وامتلأت مشاعرى بالحب نحوها لم يضايقنى سوى ذلك الاسم الذى اطلقته على..”.بابسى”…
وكان من الصعب ان افهمها انه يستحيل ان يتحول عنتر الى بابسى فى غمضة عين وتخيلت لو عرف اصدقائى فى وطنى بهذا الاسم لصرت اضحوكتهم لسنوات طويلة….ثم امضيت عدة اسابيع كنت سعيداً فى البداية بحياتى الجديدة التى لم يضايقنى فيها سوى تلك اللعبة الغبية التى كان يلعبها معى زوج السيدة الرقيقة بأن يمسك بكرة صغيرة فيلقيها بعيداً ثم يطلب منى احضارها…فاذا كان يريدها فلماذا يقذفها بعيداً وان كان لا يريدها فلماذا يطلب منى احضارها ثم لماذا لا يحضرها هو بنفسه؟؟؟
غير هذا كان كل شيىء يسير بصورة رائعة…لكنها الغصة التى فى حلقى والتى اشعر بها كلما تذكرت وطنى…حنين واشتياق لكل شىء… بحلوه ومره، كان من الصعب ان اقارن ما بين النظام والاهمال، الجمال والقبح لكنه الحنين والامل فى التغيير فلماذا لا تكون شوارع بلدى نظيفة، لمذا لا يكون النظام سائداً فى بلادى لماذا…لماذا…الف لماذا تدور برأسى وفى النهاية كان اختيارى ان اترك كل هذا الترف واعود وابحث عن سر لماذا!كانت رحلة عودتى هى المعجزة ذاتها فلولا انى التقيت الصديق الذى اوانى فى السفينة ما استطعت العودة الى وطنى فقد استطاع بالحيلة والخداع ان يهربنى الى داخل السفينة. وعلى ظهر سفينة العودة كنت استعجل الوصول وانا محمل بمشاعر وآمال كبيرة فقد تغيرت من داخلى بعدما رأيت اشياء لم اكن اعرفها من قبل….اشياء ستبدل الكثير فى حياتنا وبكل تأكيد سترفع من شأن وطنى…..ثم اخيراً عدت الى ارض الوطن وخرجت من السفينة راكضاً وانفى يحك فى شوارع مدينتى الحبيبة بعد طول اشتياق…
ورآنى احد اصدقائى القدامى…الاصدقاء الذين افتقدونى كثيراً وانتشر خبر وصولى وتجمع معظم كلاب المدينة يسألون عن سبب اختفائى فاخبرتهم بسفرى وتجربتى الجميلة فى بلاد الغربة ..رويت لهم كل ما مر بى باستثناء ذلك الاسم الغريب الذى اطلقوه على “بابسى”.
انبهر اصدقائى وتملكتهم الدهشة مما رويته لهم ثم بدأت اسألهم دون ان انتظر اجابة لماذا لا تكون لدينا كل هذه المميزات فى بلادنا؟ لماذا لا تكون لنا تلك الرعاية الصحية؟ لماذا لا يتوفر لنا المسكن الآمن والوجبة الدافئة والفراش المريح ؟ واستمرت سلسلة لماذا …ثم صار التساؤل هتافاً فسرت اهتف به وهم يسيرون خلفى يرددونه….سرت مسافة طويلة اهتف ثم تنبهت ان الاصوات من خلفى والتى تردد هتافاتى قد اختلفت فى نبرتها وموسيقاها، لويت عنقى للخلف ونظرت فلم اجد كلباً واحداً خلفى لكنى رأيت آلاف من البشر يسيرون خلفى ويرددون هتافاتى. !!!