د.ماجد عزت إسرائيل
بالحق أقول لم أكن في يوم من الأيام أن أتخيّل أو أحلم أن أتحدث مع أحد بطاركة الكنيسة القبطية أو إذا جاز لنا التعبير أحفاد كاروز الديار المصرية القديس مارمرقس الرسول البطريرك الأول في تاريخ الكنيسة القبطية (56-68م)،ولكن كان لي الشرف أن تعلمت لمدة عاماً بالكلية الإكليريكية بالعباسية على يد المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم(117) (1971- 17 مارس 2012م)،حيث كان قداسته يدرس لطلاب الكلية معا مادة اللاهوت المقارن. وأيضًا تعلمت من مؤلفاته وأشعاره وأخباره الكثير. ولطبيعة عملي بالبحث العلمي كتبت عن كل بطاركة المدينة العظمي الإسكندرية في كتبي وأبحاثي نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر “البطريرك المنتظر”،و” البابا كيرلس الرابع أبو الأصلاح”،وطي النشر “بطاركة ونوابغ الأقباط”، ورجل الصلاة ..البابا كيرلس السادس” وغيرها من الدراسات القبطية.
كما أننى لم أكن يوما ما أسعى للتقرب من بلاط ومريدى الدار البطريركية أو القائمين عليها.
وللأمانة العلمية أذكر هنا موقف للتاريخ فعقب حصولى على الدكتوراه في عام 2008م حاول أحد رهبان وادي النطرون من تحديد موعد مع سكرتارية المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث. ولكن باءت كل المحاولات بالفشل دون الدخول في تفصيل لأن هذا الموضوع يؤلمني. كان الأب الراهب الموقر يريد تشيجعى وتكريمى من رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على ما أقدمه من دراسات وأبحاث قبطية وغيرها من دراسات. وبطبيعة حياتى وتربيتى الأسرية لا أحب التملق لأنه مرضًا أخلاقيًّا مُزمنًا، ينهش كالسوسُ في نُخاعَ الإنسان القِيَمي، كما أرى أن الباحث عن الحق أن يحكم ضميره وعقله ويستخدم حكمته ومنهجه في دراساته وأبحاثه.
وعبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، علمت بخبر زيارة قداسة البابا “تواضروس الثاني” البطريرك رقم (118) – تولى منذ 4 نوفمبر 2012م– وتم تجليسه في 18 نوفمبر 2012م وحتى كتابة هذه السطور أطال الله عمره سنين عدة وأزمنة سالمية- لدولة جمهورية ألمانيا الاتحادية في 16 مايو2019م، وأن الكنائس الألمانية وخاصة التى تقع بالمنطقة الجنوبية الغربية، تصدر تصاريح للراغبين في الحضور.
ولكن للأسف أنا كنت مرتبط بموعد عائلى حيث زواج ابن شقيقى الأكبر في دولة إيطاليا وبالتحديد في مدينة تورينو Torino في يوم 18 مايو 2019م. فأصبح من المؤكد والمحال عدم حضورى للكنيسة التابع لها وقت تدشين قداسة البابا تواضروس الثانى لها.
ولكن القدر لعب دوره حيث أن أسرتي الصغيرة ترتبط بصداقة إحدى خادمات الكنيسة القبطية التى تقطن بلاد أوروبا؛ فشجعتنى على ضرورة مقابلة قداسة البابا وبين عشية وضحاها دار العديد من المكالمات التليفونية بينى وبين هذه الخادمة الأمينة من ناحية ومن ناحية أخرى بدأت التنسيق مع القمص “بولس شحاتة” راعى كنيسة السيدة العذراء،وبالفعل تم تحديد يوم 19 مايو 2019م في تمام الساعة العاشرة مساء موعداً لقائي الأول بقداسة البابا تواضروس الثاني.
وفي السطور التالية بهدوء…. نوضح بطريقة بسيطة بعض جوانب من هذا اللقاء.
في يوم 19 مايو 2019م أى يوم لقائي الأول بألمانيا مع قداسة البابا تواضروس الثاني. كما سبقت الإشارة كنت في مدينة تورينو Torino حيث تم الإنتهاء من طقوس إكليل الزواج الإرثوذكسي لأبن شقيقي الأكبر من صباح يوم 18 مايو 2019م وكان على حضور بعض الجلسات والمراسم العائلية التى تعقب الأفراح بصفة عامة. والتى يتخللها في عادتنا المصرية تقديم الأطمعة والحلويات والمشروبات. وللحق كنت مشغولا طوال هذا اليوم بموعدى مع قداسة البابا. وفي صباح يوم 19 مايو 2019م غادرت مع أسرتي الصغيرة بالسيارة مدينة تورينو الإيطالية في التاسعة صباحاً متجها إلى مدينة دوسلدورف الألمانية حيث استغرقت الرحلة نحو أكثر من 13 ساعة. وعبرنا خلال هذه الرحلة العديد من الدول مثل إيطاليا وفرنسا وسويسرا وألمانيا، وأيضًا جبال الألب الشهيرة بوسط أوروبا.وبالحق كانت الظروف المناخية صعبة للغاية حيث كانت سرعة الرياح شديدة مع الأمطار والأعاصير. بالإضافة إلى كثرة الثلوج على جانبى الطريق…. …بالطبع كانت هناك مخاطر طبيعية.وأحيانا كنا نشعر بالخوف من الرحلة عبر هذا الطريق المرعب ….ولكن كان أمل لقاء قداسة البابا تواضروس الثاني عاملاً مشجعاً ومحفزاً لنا…أنه لقاء العظيم في البطاركة!
وبعد رحلة صعبة ما بين مدينتى تورينو الإيطالية ودوسلدورف الألمانية،وصلنا بسلامة الرب إلى فندق إقامة قداسة البابا تواضروس الثاني بمدينة دوسلدورفDüsseldorf التى تعد عاصمة ولاية شمال الراين، ويبلغ عدد سكانها نحو أكثر من(18) مليون نسمه، وهي أكثر المناطق كثافة بالسكان في أوروبا، ويشق المدينة نهر الراين، وتشتهر ذات المدينة بالأزياء وبكثرة المناسبات والمعارض التجارية التي تقام فيها. ولم يكن فندق إقامة قداسة البابا بعيداً عن نهر الراين وأيضًا عن مطار دوسلدورف الدولي،وكذلك عن وسط المدينة. وفي بهو الفندق سألت عن قداسة البابا والمرافقين لقداسته.. فقال لى إحد العاملين بالفندق:” هل لديك موعد؟ فقلت له نعم لدي موعد في العاشرة. فصمت لحظة وقال لى قداسة البابا ومرافقيه يتناولون الآن وجبة العشاء.. انتظر هنا مع أسرتك وأنا أبلغ قداسته بموعدك.
على أية حال، بعد نحو نصف ساعة أو أكثر إنتهى قداسة البابا تواضروس والمرافقين له من العشاء..بالحق لم يكن عشاء فقط ربما كان يدور الحديث فيما بينهم حول أوضاع الكنيسة القبطية داخل ألمانيا.
وبعدها بدأت بوادر المرافقين في الخروج من حجرة العشاء الكبيرة. وكان من بينهم نيافة الحبر الجليل الأنبا مشائيل أسقف دير الأنبا أنطونيوس بكرفلباخ وجنوب غرب ألمانيا والقمص بولس شحاتة والقس بطرس والقمص إنجيلوس إسحق سكرتير قداسة البابا…. وبعد لحظات خرج قداسة البابا تواضروس الثاني من حجرة العشاء، وبعد تقديم السلام والتحية لقداسته منى ومن أسرتى الصغيرة….بدأ قداسة البابا كلامه بتقديم الأسف عن تأخره لمدة نحو ساعة تقريبا.. وسألنا أين نجلس.. وبمعنى أكثر دقة في أى ركن من بهو الفندق نريد أن نجلس… وبعد أن أختار قداسته مكان مناسب في بهو الفندق جلسنا وبدأ قداسته كلامه بالترحيب بى وبالأسرة بشكل كبير…يا لها من لحظات سعيدة!!
هنا لابد لى أن أسجل للتاريخ ولمن يتحدثون وينتقدون زيارات البابا تواضروس الثاني الرعوية خارج مصر، ويتهمونه بتبديد أموال الكـــــنيسة مع العلم أن من طبيعة عمل قداسته رعــــاية شعبه خارج مصر، وفي كل بلاد المهجر وتفقدهم.. كان قداسة البابا يرتدى ملابسه السوداء البسيطة، وكان يمسك بالصليب في يده وكانت أيام قليله تفصله عن نهاية الواحد والستون من عمره… وكانت لحيته كثيفه والشعر معظمه أبيض اللون…ولحيته حقيقة تجعل وجهه متناسقاً…ولمحت في عينيه التعب والأرهاق وقلة النوم،بالإضافة إلى شدة ألمه من العمود الفقرى،وأيضًا كثرة ساعات السفر بين المدن الألمانية عبر السيارة ،وكذلك أجندة المواعيد المزدحمة على أخرها.
وشعرت خلال اللقاء بقداسة البابا تواضروس الثاني الذي امتد نحو نصف ساعة تقريبا معى ومع أسرتى الصغيرة وقدس أبونا القمص بولس شحاته، بالإحترام والتقدير وتواضع قداسته المعهود بل أعطى قداسته الحرية للجميع للمناقشة خلال حواره …..وكالعادة بدأ قداسته الحوار بالسؤال من أنت؟
فقدمت نفسى لقداسته بشكل مبسط، ولكن قداسته يريد الدقة والتفصيل الشديد، ولكننى كل ما اشاهد عينيه وأرهاقه وتعبه احاول الاختصار.. كذلك بدأ قداسته في سؤال أفراد الأسرة كلٍ على حده.
وهنا أريد أن اذكر بعض الأسئلة –حذفت بعض الأمور الخاصة أو بمعنى أنها رأيت أنها غير صالحة للنشر- ربما تكون مهمة نذكر منها:
مع من تعاونت بمكتبة دير السريان العامر؟
قلت لقداسته تعاونت وعملت لفترة كبيرة مع قدس أبونا الراهب بيجول السرياني أمين المكتبة.. فعلق قداسته على قائلاً:” قدس أبونا بيجول مهتم كتير بدراسة المخطوطات القبطية، وله عدة دراسات عن المخطوطات، وعمل معى لفترة وجيزة سكرتير بالدار البطريركية”.
هنا سألت قداسته لماذا لم تحضر قداستك يوم إفتتاح مكتبة دير السريان العامر في(19 مايو 2013م)على الرغم من حضور العديد من سفراء الدول الأجنبية ولفيف من الأساقفة وعشرات من مئات الرهبان؟.
صمت لحظة وقال لي أجراءات أمنية… لاحظت أن قداسته كان يريد عدم الأجابة على سؤالى.. ولكني قلت لقداسته ربما كانت هناك محاولة للاعتداء على قداستك .. بكل صدق وأمانة لم يعلق وتركنا الحديث في هذا الموضوع لموضوع آخر. هنا نريد أن نوضح ونرصد للمعترض على قداسته كيف أن قداسته كان يضحي في كثير من المواقف من أجل شعب الكنيسة القبطية، وكانت أوضاع الأقباط في فترة حكم الإخوان المسلمين سيئا للغاية.. وبالحق نقول أن حكمة هذا الرجل وعقلانيته ورشده وحسن تصرفه نقل الكنيسة من مرحلة الاضمحلال لمرحلة النهوض ….يكفي أنه أعطى درسا عمليا في المحبة والوطنية وخاصة في لحظات ما قبل 3 يوليو 2013م وما بعدها؛أى بعد فض اعتصام رابعة العدوية..وحريق ونهب وسلب أكثر من 104 دير وكنيسة ومؤسسة خدمية.
ثم بعد لحظة بسيطة سألنى قداسته يا دكتور ماجد…من أين تأتي بمصادر دراساتك القبطية؟
فقلت لقداسته إني دائما أعتمد على مصادر متعددة منها المتاح في أديرة وادي النطرون، وأرشيف دار الوثائق القومية وأرشيف البطريركية، فضلا عن مكتبة المعهد الفرنسي والمكتبات العامة التي تضم الكتب القيمة مثل مكتبة جامعة القاهرة المركزية، ومكتبة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وأيضًا المتاح لدي بعد الأسر مثل أسرة الراحل الدكتور راغب مفتاح التى ساندتنى في دراسة قدمتها عن راغب مفتاح وإحياء الموسيقي القبطية.
ثم سألنى قداسته هل تكتب في الدراسات القبطية فقط أم تاريخ مصر والشرق الأوسط؟
فقلت لقداسته إني أكتب في الدراسات القبطية وقدمت الكثير وذكرت نماذج من هذه الدراسات منها الأقباط والمشاركة الوطنية في العصر الحديث.. ثم قال لي وعن مصر؟
فقلت قدمت دراسة عن طوائف المهن التجارية في مصر في النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وطوائف المهن التجارية في مدينة الإسكندرية في العصر العثماني، وأيضًا كتبت أبحاثا متنوعة عن تاريخ مصر وجيشها وبعض الشخصيات الوطنية الفريدة. هنا نتوقف حيث لاحظت أن قداسته كان يريد معرفة كل ما كتبته عن مصرنا الحبيبة.
وبعدها سألنى من هم أهم الأساتذة الذين تعاملت معهم؟
فذكرت لقداسته شيخ المؤرخين العرب الدكتور عاصم الدسوقي، والراحل الدكتور رؤوف عباس، والدكتور محمد عفيفي، والدكتور أحمد الشربيني،والراحل الدكتور عادل غنيم، أما خارج مصر فذكرت لقداسته الدكتور استيفان رايخموت، والدكتور بيتر جران، والدكتور جاك من الجامعة الكاثوليكية ببلجيكا، والدكتور فلكس كونراد بجامعة برن بسويسرا.
ثم بعد ذلك تركنى وسأل ولدي مارك ومارسيلنو عمن تأثر منهما بالدكتور ماجد؟
فرد نجلى الأكبر وقال أنه فقط مهتم بعمل غلاف أى كتاب لبابا حاليًا.. ثم تحدث قداسته قائلاً: هذا شىء رائع.. ثم سأله مرة أخرى كيف تقوم باعداد الغلاف.. فقال له صراحة بابا بيعدل على الغلاف كتير ويفضل يكرر التعديل حتى يخرج الغلاف كما ينبغى.
ثم سأل ولدي مرة أخرى …نريد وصف حالة بابا ماجد وهو بيكتب دراسة جديدة؟
فرد نجلى الأصغر مارسلينو قائلاً:” بابا يغلق باب حجرته على نفسه ويبقى بالساعات الطويلة ولا يريد أن يتحدث قط مع أحد..لأنه بيكون مركز في هذه الدراسة.
وبين لحظة وأخرى انظر لعينى قداسة البابا تواضروس الثانى فأرى الأرهاق والتعب على وجهه، وهنا حاولت إنهاء اللقاء بأى شكل كان….لقد اقتربت من قداسته على نحو اعتز به وافتخر .. رأيته والحزن النبيل يطل في عينه. وفي وسط تعبه وإرهاقه ذكر في أكثر من سؤال اسم مصر..بالحق قلب ينبض بالوطنية بكل ما عداها.
ولفت نظرى تواضعه الشديد ومحبته الكبيرة في حديثه وحرصه على مشاركة الجميع في الحوار، لدرجة أنه شكرنى أكثر من مرة على ما قدمته من دراسات لحفظ تراث الكنيسة القبطية وتراث مصر الحضارى. وبعدها بلحظات قليلة ودعت قداسته أنا وأسرتى الصغيرة على وعد بلقائه في مصرنا الحبيبة.ولم يتركنى في لحظة الودعاء إلا عند البابا الرئيسى للفندق… يالها من مقابلة غير متوقعه جميلة وتاريخية.
وللحديث بقية عن لقائي الثاني بقداسته بمصرنا الحبيبة.
الرب يبارك حياتكم وخدمتكم