الثلاثاء , نوفمبر 19 2024
الباسور

قراءة في أحلام الهجرة!

أصعب اللحظات تلك التي أتلقىَ فيها طلبا من أحد أبناء بلدي لمساعدته في البحث عن عمل!

يعتقد الكثير أن وجودي في أوروبا لأكثر من 46 عاما تعني أن لديَ عقود عمل مخبئة تحت فراشي، ولو كنتُ أقيم في دولة خليجية لهان الأمر؛ أما في أوروبا فهناك قوانين هجرة وشرطة لا تسامحك إذا تحايلت، ومكتب عمل يعرف عدد مرات تنفسك وكل كرونة تدخل حسابك.

طالبو العمل أو الوساطة إليه يضلل معلوماتــِـهم ضبابــُـك من أباطيل وحكايات وأبولمعيات يحكيها مهاجرون فاشلون عن نجاحهم رغم أنهم يحصلون على لقمة العيش من الضمان الاجتماعي.

أتمنىَ مصباح علاء الدين نرويجي أفركه فيظهر بعد الأبخرة مارد أشقر، وأزرق العينين يقول لي باللغة النرويجية: شُبيك لُبيك، عبدك الاسكندنافي بين يديك، ثم أطلب منه عقود عمل لعدة ملايين من الواثقين بقدرتي على تحقيق أحلامهم.

مع كل طلب للمساعدة في البحث عن عمل، أتألم أنا أكثر من مُرسله وتنتابني الحيرة في صدمة الحُلم.

المارد الجديد هو الانترنيت، ويمكن لباحث عن حُلم الهجرة في قرية نائية ببلد عربي أو أفريقي أن يعثر على ضالته المنشودة في جزيرة الفارو أو جرينلاند أو مزرعة بجنوب النمسا أو في مصنع بآيسلندا أو في دول المهجر الأربع: أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا.

أعرف أنك لا تُصدّقني، وتظن أن الوساطة الشقراء تماثل الوساطة في عالمنا الثالث، وهذا غير صحيح بالمرة.

اللغة .. اللغة.. اللغة هي المفتاح الرئيس، وسيوفرها لك مارد الكتروني يخرج من الصندوق الملون أمامك، فتعلـّمها بدلا من الأحاديث الجانبية والمقاهي ولقاءات الفرفشة والإنصات إلى أبيلمعيات الفاشلين.

الإنترنيت يوفر لك مجانا دروسا في كل لغات الأرض، صوتا وصورة وقواعد.

بعد ذلك لا تترك مصنعا أو شركة أو مزرعة أو مؤسسة أو فندقا أو مطعما في أي مكان تجيد لغة أهل بلده.

ابحث عشر ساعات في اليوم والليلة، واستعن بمن يساعدك على تنسيق الرسالة، ومن يصحح طلبك، ومن يختصر خطابك.

يمكنك أن تنشر إعلانات مختصرة ومقتضبة وتسدد ثمنها من مصروفات سجائرك؛ وسيأتيك قبل اليأس ردُّ المفاجأة في مكان لم يدر بذهنك قط.

أما الهجرة بنصف لغة، وربُع عمل تجيده، وخُمس جهل بظروف بلدِ حُلمك في الهجرة، والتحايل بمعلومات مفككة عن الدراسة والزواج والأبناء، فهنا لن يظهر لك إصبع واحد من المارد، وسيقول لك أحد النتّاشين: شبيك لبيك، ثم تكتشف أنه عاطل عن العمل.

أنا من مشجعي الهجرة إذا أصبح التفكير فيها مالكا عليك يومك وثلثَ ليلك، ولن تستريح قبل أن تحزم حقائبك من أي مكان تقيم فيه بحُكم مصادفة الميلاد، وتهاجر إلى أرض الله الواسعة، وتفشل، ثم تفشل، ثم تفشل قبل أن تنجح و.. تستقر.

حُلم الهجرة لأسباب اقتصادية أو سياسية أو وطنية أو عائلية أو عاطفية أو للبحث عن مغامرة أو لاكتشاف عالم جديد هو حقٌّ لكل من ضاقت به أرضٌ بما وسعت.

من يدري فقد تكون قد سقطت من بطن أُمك في مكان، لكن حياتك الحقيقية وسعادتك وأسرتك الجديدة في مكان آخر.

إذا كنت قد تشربت عسلا مسموما بحُلم الهجرة؛ فثق أنه لن يبرحك طوال عُمرك، وأن هناك مكانا ما، في بلد ما، بين قوم آخرين تنتظرك أحضانهم.

إذا لم تجد اسمك على تراب وطنك فقد يكون مرسوما على أرض أخرى، وهذا لا ينتزعك من حُب الوطن الأم، كما قال شاتوبريان، إنما قد يضيف إليك حُبيـّـن: حُب مسقط الرأس .. وحُب الوطن المضيف.

حٌلم الهجرة حالة حب لمكان لم تره عيناك بعد، قد لا تندمج فيه فتعود من حيث أتيت، وقد تنتقل إلى مكان آخر فثالث فرابع حتى تتعرف على وطنك الجديد الذي يثبّت حبـَـك لوطنك الأم.

كل المهاجرين كانوا غاضبين على الوطن الأم الذي تركوه، وبعد عامين أو ثلاثة أعوام تبدأ النفس في رتق وتصحيح وتقويم الخلل القديم، والغضب الماضوي لتعيد اكتشاف سعة قلبك لوطن الأم والأب والذكريات والنغم والمسجد والكنيسة!

لا تهاجروا فحقُّ الاستقرار لكم!

هاجروا فالبحث عن وطنٍ جديد حقٌّ لكم!

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

شاهد أيضاً

رحمة سعيد

كيف نحمي البيئة من التلوث؟

بقلم رحمة  سعيد متابعة دكتور علاء ثابت مسلم  إن البيئة هي عنصر أساسي من عناصر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.