بقلم : ماجدة سيدهم
(قراءة في الفضاء اللوني للفنان أحمد الجنايني )
وقبل أن نخرج إلى رحابات انطلاق الروح التي للون . علينا الدخول قبلا إلى عالم النداء الحي للجنايني ..حيث تصاعد اللون في مراحل نضجه قطرة قطرة ..ومضة ومضة ..
ورغم الصمت الضمني ماببن تماهي اللون في باقي الألوان والتألق الروحي في كل اللوحات لكن انجذاب الروح تجاه بؤرة اليقين أشبه بالصرخة المستقيمة بلا تردد أو تحفظات او أدنى نقاش مع أطر عتيقة أو أعراف ومفاهيم نمطية ..أنها لحظة المجازفة والقبض على اليقين..لحظة استقلال الألوان والتخلص من كفن الأبيض والخروج ألى الأرحب ..
توضيحا متواضعا ..في عالم الجنايني نراه على عكس المعتاد من الفنانين وعلى عكس السهل ..فهو لا يمزج الألوان ليحكي رؤيتة بقدر مايسعي لفصلها عن بعضها ليحقق التحرر واستقلال كل لون على حده.. ..ذروة التألق
وفي قراءة متواضعة لعالم الجنايني نراه يترجم عالمه الضاج بالرؤى ليحكي تجربته التى اختارته هو بعينه وانتقته مجذوبا ليضع فلسفته أمام متلقي مميز يجيد قراءة لغة الماوراء بتكويناته وتركيباته الفريدة ..هي لغة التجرد والدهشة والتصوف ..
وبينما تبلغ ذروة الأبداع مداها في تجسيده للحالة الذهنية للشخوص في صمت محتشد اللون ..لكنه يجسد ايضا تلك الحالة الوجدانية لهذا الاحتشاد والصراع اللوني .. أظنه الجنون
*لذا في المرحلة الأولى من هذا النمو الروحي الجنيني نرى مزيج من تكوينات اللون المتداخل .(.الأسود والأزرق والأصفر والأبيض .) وقد تآلف هذا التكوين مع النص الشعري في حالة من المواءمة ما بين الروح والجسد ..الخيال والواقع ..مكونا من التشكيل تجسيدا غير مكتملا ..أشبه بالجنين لفكرة التحرر .. هي نشأة فكرة الخروج من الذات وشغف الدخول إلى عوالم أكثر يقينا ونورا ..
*ثم يقودنا عالم الجنايني إلى بعد آخر.. أكثر عمقا وإيمانا بالانطلاق نحو التوحد بالأفق الأرحب ..وفي هذه المسيرة التى يسودها اللون الأصفر أكثر تتفاعل الألوان بوضوح فيما بينها .. في محاولة أقوى ليستقل كل لون عن الآخر .. أيضا نرى الشخوص على حافة مقاعد التأهب .. أو يصطفون بأكفان قيد الأنجذاب للخلاص .. شخوص طويلة القامة في تطلع إلى الأسمى والأعلى ..فيراقب المتلقي هنا الحالة الذهنية للتكوين وكأنه يتنظر إجابات “مالذي سوف يحدث فيما بعد …؟”
لكن يفاجئنا الجنايني أحيانا وفي لحظ تأني بحضور اللون الأحمر… كأنه اللون أو القرار أو التشبث الذي يهدئ من روع الاندفاع تجاه اليقين والخلاص ..
فيعود ويربطنا بعالم المادة والنمط نوعا ما .. كأنه يقول مازلت لم انطلق تماما بعد . ومازالت فكرة التحرر من الذات تنضج لكنها غير مكتملة الأوجه .. لذا مازلت في ارتباط بالمادة .ومازال الأبيض مقيدا ..عالقا بالجسد …. ومازالت الالوان لم تتحرر ولم تنفصل عن بعضها بعد ..فمازال القلق سيد المرحلة وسيد القرار الذي يحول دون الخروج التام ..
*وتنضج مسيرة اللون.. وتكتمل خبرة الرؤى ..ولا مناص هنا من تلبيه صوت النداء الآمر والآسر معا . ليحل طواعيه أزرار الجسد المادي والمنطق كله . ليخرج بنا في هذه المرحلة بوعي تام وبلا توقف ..دونما الالتفاف لاية معادلات أو قيود تشدنا للموت مرة أخرى.
فينتقل بنا من كهوف القلق ..من لفائف الأبيض ..من الصمت الأبيض .. كفن الطاقة النورانية .. ليقوم من الموات صارخا.. منطلقا كناسك مجذوب تجاه شغف الماوراء ..ماشيا على الماء.. موغلا مع اعماق عالم النقاء ..يتنفس موجاته دونما امتزاج ويصبح بحرا .. او يصبح مدي ..سرا معلنا ..نبيا ..طفلا ..ثائرا.. متفتحا ومستقلا. .. هي لحظة انفصال الألوان ..لحظة الوثوق بالضوء والمعرفة والايمان بالادراك ..هي لحظة الخروج من الذات والاتحاد بالذات الأعلى …هي ذروة التجرد ..
حين وصف الجنايني صديقه فريدرتش هيرتمان ب “,مسيح اللون ” في روايته (عاريات مولدياني ) لم يكن هذا التوصيف عابرا او محض صدفة ..لكنه جاء كسهم نوراني ليصنع في روحه ثقبا ذكيا لتنطلق منه الروح خارج كل حدود المادة ويحقق المعجزة …. التجرد من القيد إلى الخلود الأبقى
هكذا وقد تخلص من قيد الأبيض الصعب إلى عالم القيامة المستحيلة ..لذا جاء اللون الابيض ملئء بالوحشة والاغتراب مثقلا بمسحة من الشجن .. لايمنح المتلقي طمانينة لكن يدفعه ليجيب بنفسه على تساؤلته ويتابع ..” حتما انه شغف الخروج من النص ..من الذات .. “. ..لتظل تجربة الحنايني هي تجربة خاصة واختبار شخصي تعبر عن حالة صوفية واجابة فلسفية جذبته مشدودا لندائها .. دونما عائق ..
متعة معانقة فلسفة اللون بلوحات الجنايني لايضاهيها غير الانغماس شغفا في حالة التوهج المضني للتجرد وصولا للتورد الروحي ..
شكرا الفنان الكبير أحمد الجنايني