مدحت موريس
أغلقت الباب خلفى فى عنف لم يفجر كل طاقة الغضب الكامنة فى أعماقى…تركت منزلى الفسيح بعدما ضاقت وأطبقت علىّ جدرانه حتى كادت أن تخنقنى .
كانت الشمس لتوها قد غادرت السماء الى حيث لا أدرى تاركة الظلام يسدل ستاره شيئاً فشىء على أنحاء المدينة…وعندما يحل الظلام يلوذ الناس بالنور أو بقبس منه لعله يضىء طريقهم….أما أنا فلم أشعر بحاجتى لذلك النور !!!! فظلام الطريق لم يكن ولن يكون أكثر سواداً من ظلام نفسى الذى أحال حياتى كلها الى سواد حالك
لا أتبين من خلاله طريقاً أعبر به ما أعيشه من محن ومصائب تنهال على رأسى من حيث لا أدرى حتى رسخ فى يقينى أننى تواجدت فى الحياة لأتلقى المصيبة تلو الأخرى نيابة عن كل اخوانى فى البشرية.
على مقعد قديم فى مقهى صغير بأحد الأحياء الفقيرة بمدينتنا جلست
وأنا لا أعرف كيف قادتنى قدماى الى هذا المكان الذى لم يكن غريباً علىّ وخجلت من أن قدماى صارتا أكثر وفاءاً منى لأسرتى العريقة والتى كان هذا الحى الفقير مسقط رأسها. سبح عقلى فى ماض سحيق صاحباً معه عيناى لأشهد أمامى المنزل الكبير…بيت العائلة والسور الذى أحاطه من كل جانب وقد تساقطت عنه بعض الأحجار بفعل القدم بينما أزاحت أيدى العابثين بعض الأحجار من أواسط السور لترضى فضولهم –
متى شاءوا – فى التلصص على أسرة هى الأعلى والأكبر والأقوى ليس من وجهة نظرهم وانما تلك هى الحقيقة المجردة. عبر عقلى السور مستعرضاً أنحاء البيت الكبير…المضيفة والتى كان جدى الكبير يستقبل فيها زواره ومحبيه – وما أكثرهم – ومن ضمن هؤلاء من عرفه جدى بحكيم الزمان….
توقف عقلى عن استعراض ذلك الشريط القديم وتوقفت الصورة أمام عينى لأرى جدى وهو يستقبل حكيم الزمان فى توقير مبالغ فيه لم أعهده فى جدى المعروف عنه شموخه واعتداده الشديد بنفسه وتأملت الصورة أكثر وتضاءلت صورة جدى الكبير واحتلت صورة حكيم الزمان كل مساحة إبصارى وسمعت صوت جدى الأكبر يأتينى عميقاً وهو يجيبنى عن سؤال سألته فى براءة عمن يكون هذا الرجل ؟ فأجابنى مستنكراً جهلى ” انه حكيم الزمان….انه حكيم كل زمان”.
أفقت من أحلام يقظتى على عامل المقهى وهو يتناول من أمامى بعض الأكواب الفارغة والتى لا أدرى متى طلبتها ولا متى شربتها ولا أعرف حتى محتواها سألته فجأة ” أين يسكن حكيم الزمان؟” تبدلت نظراته نحوى فبادرت – قبل أن يشك فى سلامة قواى العقلية – بوصف كامل لحكيم الزمان كما أتذكره معرفاً بأنه كان يعيش فى هذا الحى منذ أكثر من خمسين عاماً…ثم أضفت وأنا أشير الى بيتنا الكبير “وكان يزورنا فى هذا البيت” تظر عامل المقهى الى حيث أشرت فأجابنى فى تلقائية
وهو يشير نحو بيت عائلتى القديم” أنا من يوم ما اشتغلت هنا وماشفتش فى المكان ده غير خرابة” ثم أضاف مشيرا الى عجوز غارق فى النوم على مقعده ” اسأل عم حربى….هو قديم فى المنطقة ويعرف كل سكانها”. سرنى أن يعرف عم حربى حكيم الزمان وفى نفس الوقت أصابنى الاحباط أنه لم يره منذ أكثر من عامين لكنه أعاد الى الأمل عندما أخبرنى أنه علم أنه كان فى ضيافة أحد التجار الأسبوع الماضى ومن الممكن أن يكون مازال هناك…سألته عن مسكن التاجر وقبل أن ينهى وصفه لى كنت قد انطلقت للقاء حكيم الزمان متجاهلاً سؤال عم حربى عن سبب رغبتى فى لقاء حكيم الزمان.
سؤالك غريب يا عم حربى لقد قالها جدى منذ زمن كل المصائب يدفعها عنك حكيم الزمان…كل أسباب الراحة لدى حكيم الزمان فان لم الجأ اليه الآن فمتى الجأ اليه؟. استقبلنى التاجر بترحاب شديد وسألته فى رجاء عن حكيم الزمان..وصدمنى أن أخبرنى أنه غادر منزله فجر نفس اليوم سألته وقد زاد رجائى الا تعرف أين يسكن؟ أجابنى لا أحد يعرف له مسكناً ثم أضاف وهو يحاول التذكر أعتقد أننى سمعته يقول أنه سيزور منزل الست ” أم بسمة”
انطلقت فى عجل نحو بيت أم بسمة أنا أعرفه جيداً بل أن الكل فى هذه الناحية يعرفونه…ثم…توقفت فى ذهول، كيف تطأ قدما حكيم الزمان هذا البيت المشبوه لابد أن فى الأمر خطأ…ترددت ثم واصلت المسير حتى بيت أم بسمة وبقيت أسفل المنزل رافضاً تلويث نفسى بوطأة ذلك البيت ولكن لفت نظرى أن كل شىء يبدو هادئاً فلا ضحكات مائعة عالية ولا موسيقى صاخبة..وما أن وجدت واحداً يخرج من المنزل حتى استوقفته وسألته عن الحكيم…
وصدمت للمرة الثانية فى تلك الليلة عندما عرفت الوجهة التالية لحكيم الزمان والتى كانت لحانة وضيعة يرتادها حثالة المجتمع وتقدم فيها أردأ وأرخص أنواع الخمور….أهذا مكان يليق بحكيم الزمان وكل زمان أم أن جدى كان مخرفاً ؟ واصلت المسير نحو الحانة…دفعت الباب ودخلت كان المكان شبه خالى الا من بعض اشباه الفنانات والفن بالنسبة اليهن مجرد واجهة لأشياء أخرى
أنأى بنفسى أن أخوض فيها. كان هناك شخص بدين يجلس بمفرده يتناول عشاءه فى شراهة وأمامه زجاجات خمر فارغة وأشار بيده للساقى ليجلب له المزيد…كان مشهده مقززاً ولكنى تقدمت منه سائلاً فى تردد ان كان يعرف الحكيم؟ أجابنى ومن منا لايعرف الحكيم؟…اننى فى انتظاره…انه سيأتى بعد قليل لا أشك فى ذلك…ودعانى للجلوس فجلست…ثم دعانى للطعام فترددت ثم أكلت بعدها دعانى للشراب ورفضت…ثم ترددت فشربت…
وشربت وتثاقلت جفونى وعجز عنقى أن يحمل رأسى واسترخت رأسى على الطاولة وسط الزجاجات الفارغة وذهبت فى أشباه أحلام أبحث عن حكيم الزمان وأتخيله أمامى أركن رأسى على صدره ..أبكى وتنزاح همومى واحدة تلو الأخرى، وشعرت بيد حانية تربت على ظهرى فيسرى الدفئ فى عروقى. أفقت على يد غليظة تدفعنى ونظرت بعين نصف مفتوحة لأجد نفس الرجل البدين ولكنه يبدو أكثر وقاراً…بادرنى”ماذا بك يا رجل….حاولت ايقاظك كثيراً…..
لقد أتى حكيم الزمان وجلست معه وزالت همومى….دعنا نخرج من هذا المكان” اتجه الرجل خارجاً وأنا أركض خلفه سألته هل أتى حكيم الزمان؟ أجابنى بل وكان جالساً بجوارك!!! وخرجت وأنا متيقن من أن حكيم الزمان قد جاء ولا أدرى ان كنت بالفعل قابلته ام ترانى لم أقابله؟….من المؤكد أننى لم أره ومن المؤكد أيضاً أنه رآنى…بل والأكثر من هذا اننى – ودون ان ابصره – تيقنت ان اليد التى ربتت على ظهرى فى حنان وأزالت كل همومى لم تكن سوى يده هو.