الجمعة , نوفمبر 22 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

مدحت موريس يكتب : حسناء المطار

 

وصل المطار فى الوقت المناسب فما هى الا دقائق وسيبدأون فى تسلم الحقائب ووزنها ..لديه ايضاً من الوقت ما يكفى لتناول افطاراً سريعاً فى كافيتريا المطار،

تحسس جيبه واخرج آخر ما تبقى لديه من عملة اجنبية وبنظرة سريعة الى قائمة المشروبات طلب “كرواسون” و فنجاناً من “الاسبريسو” – البديل الامثل للقهوة التركى التى يعشقها و حُرم من مذاقها خلال رحلته التى امتدت عشرة ايام.

كانت رحلة موفقة ، تعلم فيها الكثير لا سيما وهو على اعتاب الترقى لمنصب مدير ادارة تخطيط الانتاج بشركة الملابس التى يعمل بها.

وقد احسنت الشركة صنعاً بارساله للتدريب فى الشركة الايطالية الام فخطوط الانتاج الجديدة والتى سيتم تركيبها فى المصنع ستكون تحت اشرافه مباشرة وها هو قد رأى وتدرب على مثيلها فى المصنع الايطالى. اخترقت اذنيه كلمات باللغة العربية تأتى من بعيد يحملها صوت انثوى رقيق، التفت فى تلقائية نحو مصدر الصوت فرأى امرأة حسناء فى منتصف العقد الرابع من عمرها وهى تتحدث فى تليفونها الخاص بانفعال واضح وهى تحاول ان تخفض من صوتها الذى اختنق بالدموع.

لم يشأ ان يكون فضولياً فاعتدل فى جلسته وبدأ فى تناول افطاره وهو يمنى نفسه بالعودة الى افطاره المصرى الشهير …فول وطعمية ساخنة وبيض مسلوق مع قطعة من الجبن الابيض.

جميلة هى روما وايضاً تورينو المدينة الصناعية…لكن اين هما من القاهرة والاسكندرية اجمل بقاع الارض، هو لا ينكر عراقة تلك المدن الايطالية وايضاً لا يمكن ان ينكر جمال واصالة الآثار التى رآها فى ايطاليا ولكن اين هذا من الآثار المعجزة فى مصر ناهيك عن جمال الطبيعة هبة الله لمصر. بدأ ركاب الطائرة المتجهة من روما الى القاهرة فى الانتظام فى صفوف وزن الحقائب – ومع تحركه فى نفس الاتجاه – عاد صوت المرأة يخترق اذنيه من جديد ويقترب اكثر فاكثر..بدأ يربط الكلمات ببعضها ويتفهم الامر لقد فقدت حافظة نقودها الاجنبية…وما المشكلة فهى عائدة مثله الى ارض الوطن ولن تحتاج الا للعملة المصرية، التفت نحوها فى اللحظة التى اغلقت فيها تليفونها ولم تصل الى حل لمشكلتها بعد. عفواً سيدتى…اسمحى لى ان كنت قد فقدت نقودك فانا تحت امرك واستطيع توصيلك الى اى مكان ترغبينه من مطار القاهرة بعد الوصول بسلامة الله.

ابتسمت مجاملة اياه وشكرته ثم اضافت…المشكلة فى وزن الحقائب، انا عارفة انى ح ادفع وزن وكنت عاملة حسابى لكن مش عارفة يبدو ان حافظة نقودى وقعت او ان احدهم سرقها من حقيبتى. ابدى اهتماماً زائداً وخرج من الصف واتجه بها الى اقرب مكان تستطيع فيه ان تفرغ حقيبة يدها وتبحث مرة اخرى، انصاعت لما طلبه منها وبدأت فى اخراج كل ما فى الحقيبة وهو يتابع معها محتوياتها وبعد دقائق قليلة ظلت المشكلة كما هى دون حل…ظل بجوارها يحاول ان يساعدها وهو يخشى ان تطلب منه اية مبالغ نقدية لا يستطيع تدبيرها والحقيقة انه لو كان يملك عملة اجنبية لاعطاها لها فى الحال فالشهامة تجرى فى عروقه كابن بلد مصرى اصيل.

قطع صوتها الساحر حيرته وهى تسأله ” هو حضرتك معاك شنطة واحدة”؟ رد عليها بالايجاب ” تبقى عملت لى جميل كبير واخرجتنى من الورطة اللى انا فيها” نظر اليها فى تساؤل فاكملت ” ممكن حضرتك تأخذ حقيبة من حقائبى؟..فى الحالة دى لا انا ح ادفع وزن وانت كمان مش ح تدفع حاجة” ضرب جبهته بيده وهو يقول “ازاى ماجتش على بالى الفكرة دى؟” ناولته احدى حقائبها ووقفت خلفه فى الصف وبدأ عملية الوزن وتلته هى، مرت الامور بسلام وصعدا الى الطائرة وتمنى ان تجاوره المقعد لكن جاء مقعدها فى خلفية الطائرة…بعيداً عنه. عاد يفكر فى التدريب وتطبيقاته والتقرير الذى سيقدمه والتطوير الذى يجب ان يتم بالمصنع…ثم طار فكره ليحلق فى سماء الوطن الذى اشتاق اليه وقرر ان يسافر الى الاسكندرية ليقضى يومين للاستجمام فيها.

نظر الى الخلف لينظر المرأة الحسناء فمنحته ابتسامة رقيقة. حلقت الطائرة فى الجو ثم مضى بعض الوقت، نهض من مقعده متحججاً بالذهاب الى دورة المياة وهو فى الحقيقة ينوى التحدث مع حسناء المطار، توقف بجوار مقعدها وسألها ان كانت تشعر بتحسن بعد انتهاء المشكلة التى كانت تخشاها فاخبرته انها بخير واسمعته من كلمات الشكر والاطراء ما اراد هو ان يسمعه…سألها محاولاً الا يبدو متطفلاً “بقالك كتير فى ايطاليا” اجابت فى اختصار وهى تظهر ميلها للنوم “اسبوع….كنت بازور اختى”..شعر بالحرج وقد ابدت له انها مرهقة فانهى الحوار قائلاً لما نوصل بسلامة الله انا ممكن اوصلك لاى مكان ترغبينه” …” اشكرك لكن ابن خالى سيكون فى انتظارى” انسحب عائداً الى مقعده وهو يشعر بخيبة الامل. اغمض عينيه وهو يتعجب عن سفرها لمدة اسبوع واحد فقط، وما العجب فى ذلك، لعلها تعمل ولا تستطيع ان تنال اكثر من اسبوع واحد اجازة…ثم انها كانت فى زيارة عائلية…اسبوع واحد فقط وتعود بثلاثة حقائب؟ اليس امراً غريباً.

وما الغريب فى الامر لعلها هدايا لاسرتها سواء منها او من شقيقتها المقيمة فى ايطاليا. او لعلها تاجرة شنطة لكنه امر يبدو مستبعداً فلم يعد هناك مجال للمخاطرة والبهدلة لمجرد تهريب ملابس ثم ان الصناعة الوطنية افضل من الكثير من الملابس المستوردة يقول هذا بحكم خبرته فى مجال تصنيع الملابس. تهريب الملابس اصبح موضة قديمة.

رفع ظهره المسترخى على ظهر المقعد والتفت للخلف نحو حسناء المطار التى راحت فى غفوة….”مهربة؟” يا نهار اسود …تهريب مجوهرات مثلاً؟ …أو..أو…مخدرات…بودرة…هيروين. ابتلع ريقه بصعوبة…. يا نهار اسود…..لا…لا سيسلمها حقيبتها بمجرد نزوله المطار….اى مصيبة وضع نفسه فيها. تكدست الافكار برأسه لم تكن بينها فكرة واحدة طيبة…كلها كانت افكار سوداء، تمنى لو تأخرت الطائرة قليلاً لكى ينظم تفكيره ولكن صوت الطيار تحداه وهو يعلن عن دخول الطائرة للمجال الجوى المصرى..ريط الحزام استعداداً للهبوط وهبطت الطائرة وهبط معها قلبه الذى كاد ان يتوقف. فى طابور الجوازات كانت واقفة فى انتظار دورها، اما هو فكان واقفاً فى صف آخر، ادهشه انها لم تبحث عنه ولم تلتفت نحوه وكأنها لا تعرفه …الا تخشى ان يذهب بحقيبتها؟ الا تخشى على فقدان الحقيبة؟ ام انها تتنصل من ملكيتها لها؟ اصابته الافكار بالرعب – لا سيما بعدما انهت اجراءات الخروج وخرجت الى صالة وصول الحقائب واختفت عن ناظره بينما بقى هو فى الصف البطىء الحركة.

نصف ساعة او اكثر وهى غائبة عن نظره، تسلم جواز سفره ومشى راكضاً لاستلام حقائبه….لا بل حقيبته الوحيدة اما الحقيبة الاخرى فسيعيدها اليها قبل التفتيش مهما كلفه الامر. نظر فى كل الاتجاهات باحثاً عن حسناء المطار….يالله لقد اختفت تماماً، تلاشت كالدخان فى الهواء. تقدم نحو سير الحقائب….سيأخذ حقيبته فقط وسيترك الحقيبة الملعونة…وبالفعل التقط حقيبته من فوق السير وهم بالمغادرة لكنه تذكر ان الرقم الذى تم لصقه على الحقيبة هو رقم مقعده على الطائرة ومسجل بالكمبيوتر بل ان هناك كاميرات فى كل مكان سواء فى مطار روما او فى مطار القاهرة…سيصلون اليه حتماً…ولكن الكاميرات ستصور ايضاً تلك المرأة الملعونة وهى تعطيه حقيبتها….لا..لا…لن تثبت الكاميرا اى شىء ضد المرأة فقد كانت من الذكاء بحيث ان حقيبتى وحقائبها الثلاث حولنا وعندما طلبت منى ان احمل حقيبة من حقائبها امسكت بحقيبتين وتركت الثالثة لى وهكذا يبدو الامر طبيعياً لكل من يشاهده وبالطبع فقد تركت حقيبة المخدرات فى متناول يدى. لم يكن امامه بد من ان يعود الى سير الحقائب ويلتقط الحقيبة الاخرى…تأخر كثيراً وغادر معظم ركاب الطائرة صالة التفتيش. تقدم فى بطء وارتباك نحو موظف الجمارك الذى فحص جواز سفره وسأله الاسئلة التقليدية عن فترة مكوثه خارج البلاد وعما اذا كان معه اجهزة كهريائية او اليكترونية. وضع الحقيبتين امام الموظف فى ارتباك واضح بل انه شك فى موظف الجمرك قد سمع دقات قلبه الذى غطى على صوته فلم يعد يسمعه…من فضلك افتح القفل؟ قفل ايه….يالله حقيبة المرأة الملعونة وضعت عليها قفل؟….ضاع ….مفتاح القفل ضاع…قالها وهو يتحسس جيوبه فى حركة تمثيلية فاشلة اشعلت الريبة فى نفس الموظف ولفتت انتباه موظفى الجمرك الآخرين الذين بدأوا فى متابعة الموقف باعينهم. تم تحطيم القفل وتفتيش الحقيبة بعناية مبالغ فيها..فى دقائق شعر فيها بالدوار وانه سيسقط مغشياً عليه وارتفع صوت مصارينه فى كركبة صوتية غير منظمة بل والادهى من ذلك انه كان على وشك ان يصرخ باعلى صوته من اجل ان يحملونه لدورة المياة. اخرج موظف الجمارك كل محتويات الحقيبة والتى لم تكن سوى ملابس نسائية مستعملة ورخيصة الثمن..بعدها بدأرجل الجمارك فى تحسس وفحص الحقيبة من الداخل بينما استعد هو للسقوط مغشياً عليه عندما يعلن العثور على جيب سرى داخل الحقيبة ثم يخرج منه الهيروين…ما اهون السبب الذى سيساق بسببه لغرفة الاعدام.

انهى الموظف التفتيش وسلمه جواز سفره قائلاً”حمد الله على السلامة”…الله يسلمك ..قالها وهو يريد ان يحتضن موظف الجمرك ويقبله. لملم حاجيته وخرج فى خطوات بطيئة وساقيه بالكاد تحملانه. بحث عن الحسناء يريد ان يصرخ فى وجهها ويلعنها الف لعنة، كانت واقفة هناك بابتسامة بدت له خبيثة لكنه مع اقترابه منها وجد معها ابن خالها المزعوم قوى البنية مفتول العضلات ينظر اليه بوجه جامد بيد يأخذ حقيبة المرأة وباليد الاخرىيصافحه شاكراً….ابتعدا وهو يودع حسناء المطار بنظراته ويتمنى الا يلتقيها مرة اخرى فهو متأكد تماماً بأن حقيبة الحسناء كانت تحمل مالم يكتشفه موظف الجمارك.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.