انصرف معظم العاملون بالشركة بينما لملم “كامل” بعض الاوراق واتجه الى مكتب “سعيد” الذى لاقاه بابتسامته المعهودة ،هما ليسا مجرد زميلان فى العمل فالعلاقة بينهما هى علاقة عمر امتدت منذ الطفولة – بحكم الجيرة- حتى زمالة المدرسة فالجامعة ثم التخرج، وكانا ان ارتبطا ايضاً بشقيقتين فاضافت علاقة النسب الجديدة رباطاً قوياً فيما بينهما..
وصارت تلك الصداقة مضرباً للمثل بين الجميع فان اردت استشارة كامل فى امر ما ولم تجده فستجد عند سعيد رأى كامل والعكس صحيح. وكانت من الامور الطبيعية ان يلتقيا بصورة يومية حتى فى ايام العطلات الرسمية واختصاراً للأمر قيل ان سعيد وكامل لم يفترقا طيلة الخمس والاربعين عاماً التى مرت من عمرهما الا فى فترات النوم بالاضافة الى عامين آخرين أمضاهما كامل بعد التخرج للعمل فى احدى الدول الخليجية..
رغم ان عقد العمل هذا كان يخص سعيد اولاً الا انه فضل الا يغادر وطنه حيث تقدم لنوال درجة الماجيستير فى الوقت الذى كان يحتاج كامل الى المال ليتمم زواجه فتوسط سعيد لدى اصحاب العمل الذين لم يمانعوا فى مبدأ التعاقد مع كامل. وعاد كامل بعد انتهاء تعاقده الخارجى ليتوسط له سعيد مرة أخرى ليعمل تحت رئاسته فى الشركة الاستثمارية الكبرى حيث يعمل مديراً لاحدى الادارات بالشركة، لم تؤثر علاقة العمل كرئيس ومرؤوس على العلاقة العائلية وعلاقة الصداقة بينهما ،على العكس شكلت علاقة الصداقة سنداً قوياً دفعهما الى النجاح فى ادارة منظومة العمل بصورة اقرب الى المثالية ولم تستطع مؤامرات بعض الزملاء الذين صاروا حساداً فى افساد تلك العلاقة الفريدة.
بدا الضيق على وجه كامل، قال وهو يلقى بملف صغير الحجم امام سعيد “مافيش فايدة منين ما تروح الفساد حواليك” اهدأ يا كامل خلينى افهم ايه الحكاية” قالها سعيد وهو يطالع اوراق الملف ثم سأله وهو يمط شفتيه ” انا مش فاهم ايه اللى مزعلك وفين الفساد اللى بتتكلم عنه؟” قال كامل مندهشاً ” مش عارف فين الفساد يا سعيد امامك كشف العلاوات والحوافز الدورية الا ترى المبالغ الضخمة المنصرفة لاصحاب الحظوة اما نحن وامثالنا من المخلصين والشرفاء فدائماً نتذيل الكشف اسماً وفعلاً ” نظر سعيد نحوه ثم قال ” هذا الكشف يخص فقط الادارة المالية ولا يخص ادارتنا فى شىء قل لى يا كامل كيف تسرب اليك هذا الكشف؟” لم يجب كامل لكنه سأل سعيد بغتة انت تسألنى باعتبارك رئيسى فى العمل ام باعتبارك صديق عمرى؟” كانت مناورة ذكية من كامل لكى يحول دون تلقيه لوماً من سعيد لكنه – سعيد- الذى يحفظ صديقه تماماً تجنب الفخ بقوله ” انا اسألك باعتبارى مدير الادارة التى تعمل بها وليس من حقك او حتى من حقى الاطلاع على هذه المستندات التى تخص الادارة المالية وحدها ومن الممكن ان احيلك للتحقيق انت ومن سرب اليك هذا المستند…
لكنى كصديق اسألك الست راضياً بما تتقاضاه؟ اعلم انك كنت راضياً وقانعاً الى ان تسرب لك ما يتقاضاه البعض…صدقنى يا صديقى ان مضيت بهذا الاسلوب فلن ترتاح ولن يهدأ لك بال فمن الطبيعى ان يكون هناك من يتقاضون راتباً اكثر منك مثلما هناك من هم اقل منك. صمت كامل بعد محاضرة سعيد وشعر ببعض الخجل وفى طريق العودة تعمد سعيد الحديث فى موضوعات اخرى.
انفرد كامل بنفسه والافكار تملأ رأسه ما بين كلمات سعيد ومثالياته التى نشأ هو ايضاً عليها وبين الغيرة التى استولت عليه بعدما احس بالظلم الواقع عليه، ولام نفسه على نظرة الحسد التى تملكته وهو الذى لم يكن كذلك فى يوم من الايام لكن شيطان فكره حوله الى طريق آخر فقد بدأ يفكر فى الآخرين من زاوية أخرى فهو يدرك تماماً ان الامر يتخطى موضوع العلاوات والحوافز، فكم من بدلات صُرفت على غير وجه حق بل وكم من مصروفات وهمية تم تمريرها واعتمادها وصرفها بدون مستندات – بتوقيع مدير الادارة – او حتى بموجب مستندات مضروبة كما يسمونها…
واختمرت الامور برأسه واستقر على خطة واضحة نوى على تنفيذها فى المرحلة المقبلة. مرت اسابيع قليلة لم يعرف احد عن خطة كامل فى جمع المعلومات والمستندات الخاصة بالادارات الاخرى حتى صار لديه ملفاً متكاملاً حمله منتشياً متجهاً الى مكتب سعيد فى نهاية اليوم كعادتهما، بابتسامة المنتصر وضع كامل الملف امام سعيد الذى قام بفتحه وما ان طالع عدة صفحات منه حتى سارع بغلقه ونظر بلوم نحو كامل الذى سارع بفتح الملف مرة اخرى ” انظر الى الصفحة الاخيرة …انا الذى كتبتها بخط يدى…
اجمالى مصروفات كل ادارة على حدة من المصروفات الوهمية التى تدخل الى جيوبهم” قال سعيد ” ماذا تريدنى ان افعل.؟..ابلغ الشئون القانونية؟” اجاب كامل فى هدوء ” لن تجد عليهم شىء فكل هذه المصرفات التى تزيد عن رواتبنا الشهرية منصرفة وفقاً للائحة…لكن كل ما اريد توضيحه ان ادارتنا هى الادارة الوحيدة من ادارات الشركة التى لا تستغل هذه البنود…بنود العمولات والاكراميات والضيافةو…و…الخ .
صمت سعيد لثوان ثم قال ” لكن ادارتنا استطاعت تسيير اعمالها دون احتياج لهذه البنود قاطعه كامل بضحكة عالية ” مش ح ينفع نتكلم هنا سأنتظرك على العشاء بمنزلى ونتكلم براحتنا. قال سعيد بصوت خفيض” اشعر انك لست بكامل الذى اعرفه…اخشى ان الشيطان قد لعب برأسك” علت ضحكات كامل وهما يغادران المكتب ” ما شيطان الا البنى آدم…واحنا شغالين مع بنى آدمين كتير”.
اعد كامل سيناريو الامسية التى سيقنع فيها سعيد بأن يفعل كما يفعل مديرو الادارات الاخرى…بل وحسب بدقة المبالغ التى سيحصلون عليها ومنح نفسه النسبة الاقل من الاموال التى ستتدفق عليهما بينما ترك -راضياً- النسبة الاكبر لسعيد باعتباره مدير الادارة..دق جرس الباب فى تمام السابعة مساء…هكذا سعيد دائماً يلتزم الدقة فى كل تصرفاته ومواعيده..فتح الباب لصديق عمره الذى احتضنه وكأنه لم يره منذ زمن..الحمدلله واضح ان دماغه لانت هكذا قال كامل فى نفسه قبل ان يبادر سعيد “غداً اجازة وزوجاتنا فى زيارة اهلهم…يعنى نسهر براحتنا وممكن تقضى الليلة معايا كمان” ابتسم سعيد ببشاشة شجعت كامل على الدخول فى الموضوع مباشرة فبدأ يشرح له البنود المطلوب استغلالها فى الميزانية والتى سيتم صرفها بصورة قانونية وكم ستدر عليهما ما يضاعف دخلهما السنوى بل واخرج من درج مكتبه فواتير متنوعة بدون تاريخ لكى يتم استخدامها وقت اللزوم…
انتهى كامل من شرح خطته وانتظر رد فعل سعيد الذى لم يتحرك من مقعده ثم اتسعت ابتسامة كامل وهو يستمع لرأى سعيد وتعديله لجزئيات محددة بما يكفل عنصر الامان لكليهما ولا يتعرضان للمساءلة..كما انه اصر على ان تكون نسبة ما يحصلا عليه متساوية..قال كامل ضاحكاً كنت متأكداً ان خبرتك وذكاءك سيلعبان دوراً هاماً….امتدت السهرة بالصديقين حتى الثالثة صباحاً بعدها استأذن سعيد فى الانصراف وحاول كامل من جهته اقناعه بالبقاء حتى الصباح…
ما ان غادر سعيد حتى قفز كامل فى الهواء فرحاً بانتصاره فقد استطاع اخيراً اقناع سعيد وتليين دماغه…قضى ليلته يحلم بما سيحصل عليه فى الايام القادمة وحاول طرد بعض الافكار المزعجة التى تسببها يقظة ضميره ولومه لنفسه على جر صديقه الى هذا المستنقع..وما بين اوراق البنكنوت المتطايرة ورنين النقود فى احلامه دق جرس الهاتف ليخرج كامل من احلامه السعيدة…نهض متثاقلاً…آلو مين؟ جاء الصوت على الطرف الآخر انه سعيد…مصيبة لو تراجع عن الاتفاق…اهتزت السماعة فى يد كامل وكاد ان يسقط على الارض وهو يسمع صوت سعيد يعتذر عن عدم حضوره بالامس بسبب نزلة برد شديدة اصابته فغط فى نوم عميق دون ان يدرى سقطت سماعة الهاتف من يد كامل وعيناه مثبتتان على المقعد الفارغ الذى كان يجلس عليه سعيد طوال الليل او من كان يُفترض انه سعيد!!!!!.