بقلم: إيليا عدلي
“قيام.. جلوس.. تعظيم سلام للسيد الضيف..”.. هكذا كانت بعض العبارات المعلبة التي تربى عليها أجيال عديدة في مدارسنا، وكانت من أخطر العبارات على استقلال العقول وتنويرها؛ لأنها – دون وعي – تجعل من التلاميذ كائنات سهلة التشكيل والانصياع نحو التحية والتصفيق والترحيب حتى ولو من باب النفاق أو الالتزام بأوامر لا تناسب أراءهم، أو الترحيب بشخص لا يروق لهم من باب تجنب الاتهام بالخروج عن زمرة القطيع!
تلك العبارات صنعت منتجا متشابه الذوق والرأي والفكر في زمن لا يعترف إلا بالتعدد والتنوع، ولا يتقدم إلا بالاختلاف المصحوب بقبول الرأي الأخر، الخالي من الصدام والتشبث. في هذا السياق يحضرني تجربة عملية ظريفة جدا، أجراها أحد الباحثين في علم الاجتماع، وهي كالتالي:
في موقف أشبه ببرامج المقالب اختار الباحث إحدى المترددات على عيادة طبيب للأسنان، وجهز كاميراته لرصد ردود أفعالها وهي بصالة الانتظار.. بدأ التصوير وهي وحيدة مع السكرتيرة، وفجأة رن جرس بالصالة فانتصبت السكرتيرة واقفة في وقار عدة ثوان دون سبب ثم جلست؛ نظرت إليها الفتاة بذهول دون أن تقف.. برهة ودخل إلى صالة الانتظار شاب وفتاة يتظاهرون أنهم في انتظار الطبيب وجلسا بجوار الفتاة المستهدفة للتجربة.. وبعد دقيقتين رن نفس الجرس السابق فهبت السكرتيرة واقفة ومعها الشاب والفتاة، فازداد ذهول الفتاة مما حدث، وبالتأكيد بدأت تفكر في نفسها لماذا يقف هؤلاء جميعهم عند سماع صوت الجرس، ولكن احتراما واعتزازا بفكرها رفضت الانصياع لتأثير الاخرين ونظراتهم اليها وهي جالسة وهم وقوف، والوقوف لشيء لا تعرف ماهيته.. وبعد دقائق امتلأت صالة الانتظار بالناس من مختلف الأعمار، وفجأة رن الجرس فهب كل الناس بالصالة وقوف.. لم يقفوا فقط بل اخذ جميعهم يحملقون في الفتاة الجالسة بنظرات أحرقت بداخلها كل اعتزاز بالرأي وكل ثبات الموقف وكل احترام لعقلها؛ فهبت واقفة.. للاشيء.. لصوت جرس لا تعرف هويته أو سببه أو سبب وقوف الناس له.. عزيزي القارئ.. إذا كنت تقرأ ما سبق باللغة العربية فبالطبع لا تحتاج أن أكتب لك تحليل الباحث لما حدث مع الفتاة وما كانت مشاعرها وفكرها.. فأنت أعلم وخبير بما تم!
التنوير هو أمل كل إنسان في الحياة؛ ليحيا حياة متصالحة مع نفسه ومع المجتمع.. ومن ثم الشعور بالحاجة إلى الابداع والتجديد والاختراع والتقدم.. والتنوير ليس بجديد.. تكلم عنه فلاسفة أوروبا منذ ثلاثمائة عام وأطلقوا شعلة التنوير.. الأشهر بينهم الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانط) الذي عرف التنوير بأنه: “خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد.” كما عرَّف القصور العقلي على أنه “التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا.”
وذهب الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) نحو الطبيعة التي أبدعها الله لنا ونقاءها دون عبث اليد البشرية فيها وأهمية التأمل فيها وقال: “كل شيء جيد عندما يغادر يد خالق الأشياء؛ كل شيء ينحط في يد الإنسان”.
مقال جميل