كتب : مدحت موريس
الابتسامة تشرق على كل الوجوه…الاجساد تملأ المكان حركة وحماس..انها فرحة اليوم المنتظر حيث الابتهاج بمولد صاحب الضريح والمقام الذى جلب الخير والبركة للقرية الصغيرة بل وللقرى المجاورة ايضاً فى كل ايام السنة، لكن يوم مولده هو شىء آخر فهو يوم للخير والبركة بكل ايام السنة. حتى الحكومة ايضاً تحتفل معنا بهذا اليوم …
هكذا قال اهالى القرية فالحكومة تسمح لهم بسرقة الكهرباء ومد عشرات من الاسلاك التى تحمل مصابيح كهربائية ملونة لتزين سماء القرية المنخفضة رغم ان نفس الحكومة هى التى تطاردهم طوال ايام السنة بالمخالفات والغرامات الخاصة بسرقة الكهرباء!!!
لا يريد احد تدمير فرحة المولد وبهجته، لا يريد احد افساد قدسية المولد انه يوم الخير والبركات. ترتفع الرايات على كل زوايا المبانى وتتقاطع فى منتصف الشوارع الصغيرة للقرية…
يخرج البعض يدقون الدفوف بملابسهم المميزة ذات الالوان المتعددة والتى يغلب عليها الاحمر والابيض فتثير قدراً من البهجة باشراقة الوانها ونظافتها وهى بالطبع تظل على نظافتها لارتدائها مرة واحدة فى السنة…بدأ الزوار يفدون من القرى المجاورة اغلبهم من الاطفال بصحبة امهاتهم اما الرجال فغالباً يحضرون بعد الغروب وسرعان ما تبدأ فعاليات المولد تلقائياً دون ان يعلن احد افتتاحها…
الزوار يفترشون الارض واضعين اطعمتهم بجوارهم، وينظرون حواليهم فى نظرات استكشافية لمن يفترش الارض بجوارهم او من خلفهم ويحيون من يستطيعون التعرف عليه من جيرانهم او من سكان القرى الاخرى او من سبق لهم تعارفهم فى موالد سابقة، تبدأ القروش فى الخروج من الجيوب او من صدور الامهات لاطفالهن لركوب المراجيح ومراجيح هذا العام مزودة بمصباح كهربائى
لكى لا تكتفى بساعات النهار وتدور الليل كله بالاطفال السعداء، تنهر الام طفلتها الجالسة بجوارها مرغمة فالطفلة تريد الانطلاق وركوب المراجيح مع ذويها بعقلية الطفلة الصغيرة لكن الام تجد فى جسد ابنتها عائقاً، فجسد طفلتها الذى نضج ليس له ان يدخل فى ارجوحة
ويهتز امام اعين الرجال والمراهقين لكن عقل الطفلة المنفصل تماماً عن جسدها يرفض فكر الام ويقودها لان تتسلل من وراء امها وتخرج نقوداً ادخرتها لهذا اليوم وتذهب فتشارك الاطفال لعبهم وتركب الارجوحة لدقائق قليلة تكتفى بها ثم تعود لتجلس بجوار امها يلاحقها الكثيرون من الشباب الذين رأوا فيها ما رأته امها. يعلو صوت مشاجرة وسط الغبار المتصاعد عن بعد جراء مبارايات دورة المولد للكرة
ويتدخل بعض العقلاء لحل الازمة التى نشأت لاصابة لاعب يلعب حافياً وقد دهسته قدم لآخر يرتدى حذاء كرة قدم، لم تكن الاصابة هى سبب المشاجرة بل كانت غيرة اللاعب الحافى من الآخر الذى اهداه ابوه حذاءاً للكرة احضره من الدولة الخليجية التى يعمل بها. يستمر المولد تلقائياً دون مُنظم له فالبرنامج يبدأ بعد الغروب، يلتف بعض الشباب حول رجل بسيط كهل وهو يعد الشاى لهم –
وعلى الرغم من شيبته وضآلة جسده وانحناء ظهره – الا ان سرعة اعداده للشاى وسكبه فى الاكواب كانت لافتة للنظر كما ان طريقة كلامه وصوته الذى يحاول ان يرفعه ليغطى على صوت موقد الجاز الذى يعد عليه الشاى كانت محببة لدى الشباب خاصة عندما يحكى عن ذكرياته القديمة ويشير الى مكان الضريح وساحته القديمة الضيقة وكيف انه مع ازدياد عدد الزوار
انضمت الارض الفضاء الشاسعة التى يقفون عليها الآن لتصبح جزءاً من المزار، ثم يبدأ فى سرد حكايات ووقائع تاريخية من وجة نظره بالطبع عن الضريح وصاحبه وزواره ولا مانع من سرد بعض العجائب والمعجزات التى حدثت لزوار الضريح…وعلى الرغم من ان كلام الرجل كان يحوى الكثير من الشطط والتناقضات الا ان الجميع – بمن فيهم – من المتعلمين كانوا يصدقون على كل ما يقول.!!! تميل الشمس نحو الغروب وتتزايد اعداد الوافدين الى المولد واغلبهم من الرجال الذين انتهوا من اعمالهم واتوا قبل بدء البرنامج الاساسى…اجتمع الرجال
لوقت قصير مع عائلاتهم ثم بدأت الجلسات تنقسم الى مجموعات من الرجال واخرى من النساء وكان البعض من الرجال قد احضروا معهم من البندر بضع زجاجات من البيرة وبدأوا فى الشرب واحتج البعض الآخر على ذلك خاصة مع تنافىيه لقدسية المكان وبرر اصحاب الزجاجات الخضراء موقفهم بأنهم يشربون شراباً صحى هو ماء شعير مفيد للكلى وللصحة بصفة عامة
فانبرى احد الرافضين وقام بفحص الزجاجات وقراءة مكوناتها ليتأكد من خلوها من اية مواد كحولية لكن اسقط فى يده عندما امسك باحدى الزجاجات المستوردة فوجدها مكتوبة بلغة اخرى لا يعرفها لكنه اطمئن وطمأن الآخرين عندما سأل صاحبها وعلم منه انه اشتراها من نفس المتجر الذى اشترى منه الزجاجات الأخرى. انتقل الرجال ليقتربوا اكثر من المنصة التى نصبها القائمون على برنامج المولد
الذى بدأ بتواشيح واناشيد تسبح بحمد الله ثم ظهر بعدها مجموعة من الشباب قاموا ببعض الاكروبات والتى قيل عنها انها تمثل بطولات اهل القرية فى مواجهة قوات الاحتلال رغم ان بائع الشاى العجوز اقسم الف مرة ان ارض القرية المباركة لم تطأها اى قدم اجنبية منذ القدم!!! وتوالت فقرات البرنامج بعضها كان مملاً ينصرف الناس عنه بالحديث او بتغيير مياه الشيشة وفى احدى الفقرات والتى كانت فقرة كوميدية هب عجوز ملتحى كان ضمن الحاضرين
واقفاً صائحاً مؤنباً للجميع من مضيعة الوقت فى الكلام الفارغ، مبكتاً بعضهم على تدخينهم الشيشة وشربهم مشروبات مشكوك فى امرها…خيم الصمت على الحاضرين اثناء صياح الرجل فيهم ثم قام بعض من الرجال بتهدئته وحلفوه بالا يعكنن على نفسه فى هذه الايام المفترجة داعين من يدخنون ويشربون ان يمتنعوا عن ذلك وهؤلاء بدورهم اطرقوا خجلاً او ادعاء بالخجل
والغريب انهم بعدها عادوا لشربهم وشيشتهم ومعسلهم وفحمهم كأن شىء لم يكن لكن الاغرب ان العجوز الملتحى لم يعترض ثانياً ولم يغادر المكان. اقتربت الفقرة الاخيرة من برنامج المولد مع فنانة مطربة تغنى وتنشد بكلمات تتغزل فى القرية واهل القرية برجالها الاقوياء وقوة عزيمتهم، امرأة محترمة ومحتشمة …هكذا قالوا وبالفعل كان جسدها مغطى بالكامل
حتى مع تمايلها مع الانغام لكن العيون الزائغة كانت ترى ما لا يراه احد كل حسب تخيله وامتدت السهرة حتى بزوغ الفجر والحاضرون يطربون لتلك الاناشيد التى تمنوا الا تنتهى. انصرف الحاضرون بعدما امضوا ساعات يجمعون فى ابنائهم وفوارغ حاجياتهم قبل الرحيل …
وانفض المولد وذهب المشاهدون والفنانون وبقى فقط اثنان خادم الضريح وحارس الضريح مع اكوام ضخمة من القمامة التى خلفها الحاضرون وتعاون الاثنان لتنظيف المكان وحضرت سيارة تحمل عمال الفراشة لانزال الرايات والمصابيح الكهربائية
حيث بدأوا فى عملهم فى الساحة بعدما ازالوا زينات الضريح وطلب الخادم ان يأخذوه بالسيارة لتنظيف الضريح لكنهم طمأنوه بأن الضريح نظيف بل انه انظف من اى وقت مضى…
فعدد من قاموا بزيارة الضريح والتبرك به لم يزد عن عدد اصابع اليد الواحدة…هز الخادم رأسه وهو يتذكر قولاً قديماً ” الاسم لصاحب المقام والمولد للغازية”.