د. حامد الأطير
التنظيمات والجماعات الدينية الإرهابية المتطرفة لا تختلف كثيراً عن الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية لا في الأهداف ولا في الوسائل ولا في ممارستها للديكتاتورية والاستعباد، فكلاهما يطمع في السلطة والحكم وكلاهما يتبع نفس النهج للسيطرة على الجماهير أو الرعية وحشدها لمساندته ومساعدته لاقتناص كرسي الحكم، وكلاهما يُعلي من سلطة الحاكم الفرد والجماعة التي ينتمي إليها وكلاهما يُصبغ العصمة على الحاكم هنا أو الأمير هناك، باختصار كلاهما يقوم بالتطبيق الحرفي للديكتاتورية التي تُعني حكم الفرد أو الأقلية للأغلبية أو الكل.
الاختلاف بينهما يتمثل في طرق العمل والتسلل والتغلغل بين الجماهير بغية استقطابها وتجنيدها وتجييشها وتجهيزها وإعدادها إيدلوجياً لتكون على أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يُطلب منها أثناء المواجهات والجولات بين الطرفين، تلك الاختلافات ليست كبيرة لأن كلاهما يستخدم سياسة الترغيب والترهيب أو سياسة العصا والجزرة والرشوة، ففي حين تستخدم الأنظمة الحاكمة إمكانيات الدولة ومؤسساتها المختلفة، الاقتصادية والعسكرية والشرطية والإعلامية وغيرها للسيطرة على إرادة وعقول الناس باتخاذ الوطنية شعاراً واستقلال الوطن عنواناً وتنادي بإعلاء شأنه والحفاظ عليه وحمايته والتضحية من أجله بكل ما هو غالِ ونفيس، ومن يناوئها أو يعارضها تعاقبه بالقانون وبغير القانون وتكافىء من يواليها بالمنح والعطايا والهبات والمناصب الرفيعة.
في المقابل نجد أن التنظيمات الدينية المتطرفة تتحرك بنفس الأسلوب فتتبع سياسة الترغيب والترهيب، الترغيب في الجنة ونعيمها والترهيب من النار وعذابها، وتسعى للسيطرة على مشاعر وعقول ووجدان وإرادة الناس بإذكاء وإيقاظ النعرة الدينية المنحرفة بدعوى الانتصار لدين الله وشرعه، وتعمل على ذلك بوعي وتخطيط دقيق ونعومة وتؤدة وخبث مستغلة سخط الناس على الحكام واستعدادهم لمناصرة مناوئيهم ومعارضيهم ومستغلة في الوقت ذاته الفقر والعوز والانغلاق الفكري والجهل والأمية الدينية والثقافية للشعوب العربية، فتقدم نفسها بصفتها حاملة لواء الحق والعدل والمدافعة عن الإسلام والموكلة بحمايته وتمكينه، ولتضمن الانقياد الأعمى لأفكارها وأهدافها فإنها تستخدم شعارات دينية ملتهبة تذيب القلوب وتطيح بالعقول وتأخذ بالألباب، وتسعى دائماً للتواجد في الأوساط والبيئات التي يمكن أن تؤثر فيها وتستجيب لأفكارها وتستطيع تأليبها ضد الأنظمة الحاكمة، فنراها تنتشر في القرى والأرياف والأحياء الشعبية والأوساط العمالية والطلابية والنقابية.
هذه التنظيمات المتطرفة تعتبر نفسها ظل الله على الأرض وحارسة العقيدة تقدم مفاهيم مشوهة عن الإسلام وكل منها يدعي أنه الفرقة الوحيدة الحقة وإسلامها هو الصحيح وأنها الباب والمغلاق والمفتاح الذي يفصل بين الناس وبين الله، فمن أراد النجاة والجنة وجب عليه المرور من بابها، كما تعتبر اعضاءها وأتباعها هم المسلمون والمؤمنون وما عاداهم إما كافر أو مبتدع أو خارج عن الملة أو عاصٍ.
كما أن تلك التنظيمات المتطرفة لا تتورع عن تضليل الناس والتغرير بهم فتصور لهم أن المجتمع في عصور الإسلام الأولى كان مثالي نقي تقي ورع لا تشوبه شائبة وأن المسلمين الأوائل كانوا ملائكة تمشي على الأرض لا يعصون لله أمراً وأطهاراً مطهرون منزهون عن كل نقص وعيب لا يكذبون ولا ينافقون ولا يزنون ولا يجبنون ولا يطمعون ولا يحسدون ولا يبغضون ولا يتباغضون ولا يغشون ولا يحقدون ولا يتآمرون، باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، علماء وفقهاء لا جاهل بينهم، أبطال وصناديد ليس فيهم جبان أو قاعد عن القتال، وهذا كله عكس الواقع والحقيقة التي يحاولون تغييرها وإخفائها، فالمسلمون الأوائل لم يكونوا ملائكه ولم يكونوا كلهم أولياء بل كانوا بشر مسلمين مثل بشر ومسلمي اليوم، منهم الصادق والكاذب والشجاع والجبان الأمين والمنافق المستقيم والمخادع والخائن والمرائي، الشريف والسارق الغني والفقير والوضيع والحقير والمعتصم والمُحصن والمحافظ والمفرط والزاني، القوي والضعيف العالم والجاهل الفقيه وغير الفقيه، فلولا قلة عدد الأتقياء والفقهاء والعلماء والقواد والمميزون ما حفظنا أسمائهم.
إن تعمد تلك التنظيمات تقديم صورة مغلوطة للإسلام في عصوره الأولى وجعلها مقياس معياري يتوجب استعادته وتطبيقه قد صنع اليأس في نفوس الكثير من المسلمين وجعلهم يشكوا في إسلامهم وفي عقيدتهم، وهذا ما تبتغيه تلك الجماعات وتهدف إليه، فحين يصل الناس لهذه الدرجة من الشك في صحة دينهم وعند الشعور بالنقص والتقصير والعجز عن أن يكونوا مثل سابقيهم أو أسلافهم تتهيأ الفرصة لهذه التنظيمات لاصطياد الناس وبرمجتهم واخضاعهم لأفكارها ومفاهيمها المتطرفة.
وحتى لا نعطي لتلك التنظيمات الإرهابية الفرصة لصنع الأزمة الإيمانية لدى الناس علينا ألا نسمح لأحد بتزوير الأحداث أو تجميل العصور وعلينا ألا ننسى أن الفتن المُهلكة والصراعات الدامية على الحكم كانت في صدر الإسلام والتي قُتل فيها بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم المبشرون بالجنة وقُتل فيها الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلينا ألا ننسى أن بداية التشيع والشيعة والخوارج كانت في صدر الإسلام.