د. حامد الأطير
انتهت منذ قليل امتحانات الثانوية العامة، وما أدراك ما الثانوية العامة! هي صفحة في كتاب الفساد الكبير، تحمل في طياتها كل أشكال الانحراف المجتمعي وتعبر بجلاء عن الحالة المذرية التي وصلنا إليها على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي، لقد أبى المجتمع أن يستر عيوبه أو يواري سوءاته أو يخفي مساوئه وأصر على فضح نفسه جهاراً نهاراً وسعى لينعي للعالمين ضياع قيمه وانهيار أخلاقه.
الثانوية العامة صور مصغرة للمجتمع بتكوينه وصفاته وخصائصه، ضلعه الأول الحكومة ممثل في وزارة التعليم بدءاً بالوزير مروراً بوكلاء الوزارة والمديرون والموجهون والمدرسون وضلعه الثاني الطلاب وضلعه الثالث أهالي الطلاب. الأضلاع الثلاثة تلاقت رغبتها واجتمعت إرادتها على ممارسة الفساد علناً وارتكاب جريمة الغش بكل جرأة وبجاحة ووقاحة وفي حماية الشرطة وتحت أعينها، لأن الشرطة ممنوعة من التدخل في سير عمل لجان الامتحانات ومهمتها تقتصر على حفظ وتأمين اللجان من الخارج لمنع تسلل أحد إليها.
الأمر المُبكي والمؤلم أن نرى الكل وهو يشارك في صنع وممارسة الجريمة باتفاق ضمني بين أطرافه، الجريمة التي لا تبدأ في نهاية العام الدراسي بل في أوله، فمنذ اليوم الأول والمدارس خاوية على عروشها وخالية من المدرسين الذين راحوا يجمعون مئات الألاف وربما ملايين الجنيهات من الدروس الخصوصية، بمعرفة وتسهيل بعض الإدارات وربما بتواطئها مقابل نسب من الحصيلة في ظل غياب جدية الوزارة لضبط العملية التعليمية وعجزها عن إلزام الجميع بالحضور والقيام بدوره وتأدية واجبه وفي ظل انعدام الرقابة أو عدم جديتها واقتصارها على الرقابة الورقية والمستندية وما أبرعنا في تظبيط وترتيب الأوراق والمستندات، وخالية أيضاً من الطلاب الذين يصرون على التغيب عن المدارس لتحصيل العلم في مراكز الدروس الخصوصية بعد أن جربوا الحضور والانتظام فلم يجدوا سوى الإهمال والتقصير المتعمد والشرح غير الكافي أو المُرضي، ثم يأتي أولياء الأمور ليغلقوا الدائرة القاتلة، فمن منطلق مصلحة أبنائهم رحبوا بانقطاعهم عن المدارس بل عارضوا ذهابهم إليها وساندوهم لتحصيل العلم خارج أسوارها.
وتصل المأساة لقمتها عندما يحين موعد الامتحانات، فترى الأضلاع الثلاثة (الوزارة والطلاب وأولياء الأمور) وقد تواطئوا واتفقوا عن طيب خاطر على تنفيذ هدف واحد هو تنكيس راية الأخلاق والقيم ورفع لواء الغش والتدليس!
فالوزارة تريد تحقيق نسب نجاح محددة لا يجوز النزول عنها لتثبت أنها أدت دورها التعليمي على الوجه المطلوب ولتخلي وتُفسح أماكن لدفعات قادمة من الطلاب، والتشديد والجدية سيؤديان حتماً لعدم تحقيق هذين الهدفين، علاوة على ذلك فإن الوزارة لا تستطيع توفير الحماية لمراقبيها داخل لجان الامتحانات مما يجعلهم خائفين بل مرعوبين، لأنهم مُهددَون ومُستهدَفون بشكل مباشر من الطلاب وأهاليهم، والطلاب استحلوا الغش بكل السبل وكافة الطرق المعتادة وغير المعتادة وأصبحوا يعتقدون بأن هذا حق أصيل لهم غير قابل للتنازل أو التفاوض، وهم على استعداد لضرب وإهانة المراقب ومن يعلوه وعلى استعداد لتلفيق التهم له بالتعدي عليهم إذا ما حاول منعهم من ممارسة الغش الورقي والهاتفي والإليكتروني، والأهالي يحتشدون أفراد وأرتال خارج أسوار المدارس منتظرين التقاط أول إشارة من أي طالب فاشل تفيد بانضباط اللجنة وجدية المراقبة وعدم وجود فرصة للغش ليقوموا بممارسة البلطجة والترهيب والإرعاب وليعلوا صراخهم ووعيدهم وتهديدهم بضرب وتأديب كل مراقب يؤدى عمله بشرف ونزاهة ويتصدى لمحاولات الغش، وللأسف فإن هذه البلطجة سرعان ما تؤتي بثمارها فيتخلى المراقبون عن دورهم المنوط بهم ويتركون الطلاب يغشوا كما يحلو لهم ويفعلوا ما يشاءون فتجد اللجان وقد تحولت إلى سوق شعبي تعمه الفوضى العارمة، ولا يدهشك انتقال بعض الطلاب من لجانهم إلى اللجان الأخرى لاستكمال عملية الغش ولا يدهشك تهديد الطلاب بضرب رؤسهم وإحداث الإصابات بأنفسهم والادعاء بأن المراقب هو من تعدى عليهم وأحدث بهم الإصابات كما لا يدهشك تهديد الطالبات بفتح وتقطيع أزرار ملابسهن والادعاء بأن المراقب قد تحرش بهن وتعدى عليهن وأمسك صدورهن!
وضع مأزوم وموحل وفاسد وقاتم ومرعب ومقلق على مستقبل هذا البلد، لأن هذه الامتحانات وما يُرتكب فيها من جرائم ما هي إلا انعكاس لقيم المجتمع وأخلاقه ومبادئه، وقد آن الأوان أن تمارس الدولة دورها وتُعلي إرادتها وسيادتها وتأبى الرضوخ لقوى الفساد والبلطجة، فلا مجال للموائمات السياسية أو المجتمعية عندما يتغول ويتعملق الفساد ويوشك على هدم أركان وبنيان الدولة وعندما يتحفز للقضاء على كل أمل في الإصلاح أو التقدم.