الأحد , ديسمبر 22 2024
الكنيسة القبطية
ماجد سوس

حتى لا يزورون التاريخ الحقيقي (١) متي المسكين الذي لم يفتح فاه

فجر الخميس 8 يونيو 2006 انطلقت إلى الفردوس روح آبائية من القرن الرابع عاشت معنا في القرن العشرين

روح باعث النهضة الرهبانية في القرن العشرين الذي قال عنه مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث أنه علامة مضيئة في تاريخ الرهبنة

قال عنه أبناءه الرهبان أنه ثروة الله للكنيسة في مصر في القرن العشرين

إنه اللابس الروح العملاق الأب متى المسكين صاحب التراث الروحي والآبائي الأصيل الذي نحتفل بعيد نياحته هذه الأيام

الرجل الذي لم يعد ملكاً خاصاً لديره او أولاده الرهبان بل صارت حياته وتعاليمه وتراثه ملكاً مشاعاً للكنيسة جمعاء في كل العالم وقد عرف الكثير من غير المصريين الكنيسة المصرية من خلال كتاباته التي ترجمت لأربعة عشر لغة ووزعت في معظم دول العالم

كاتب لاهوتي، آبائي وفيلسوف ماهر، باحث ومؤرخ ومفسر، فلاح إنجيل كتب أكثر من مائة وثمانين كتاباً، جمع فيها في تناغم فريد بين روح وفكر الآباء التقليدي الأصيل وفِي ذات الوقت بين الأنفتاح على الفكر المعاصر وتقديم وجبة دسمة للقاريء تشمل عرض تفسيرات كبار مفسري الكتاب المقدس من كل مكان في الكنيسة الجامعة .

كل كلمة في كتاباته او مقالاته او عظاته ثمينة ولها معنى عميق يحتاج لتأمل وكل كتاب ذات قيمة عظيمة كجوهرة ثمينة.

والرجل أخذ على عاتقه أن يرفع النفس ويشجعها ويضع في قلبها رجاء حي فتلتقي معه دائماً بالمسيح الكلمة وتنهل منه شخصياً فيستحيل ان تخرج من محضره يائس او محبط او مثقل

الكتابة عن ابونا متي المسكين لا تكفي فيها الصفحات والجرائد والكتب معاً فهو ظاهرة فارقة في تاريخ الكنيسة لكني سآخذ جانباً واحداً فقط وهو رفضه التام فى الدفاع عن نفسه ضد كثيرين من الذين هاجموه وانتقدوه فلم نسمع له قط دفاعا أو حتي توضيحا بل إنه كان يوصي أولاده توصية مشددة بألا يدافعوا عنه حين يذكره أي أحد بسوء لكي لا يظهر منتقدوه امام الناس انهم مخطئين وكان يرفض بشده ذلك

وكان أحد تلاميذه بدأ بكتابة ردود يثبت فيها أصول كتاباته الأرثوذكسيةالآبائية فأمره بعدم تداول هذه الكتب لما فيها من إساءة للذين ينتقدونه وكان دائما يضع الأية التي فى سفر أشعياء أمام عينيه ويرددها( ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ )وكان يعيش بمقولة كان قد كتبها على جدار قلايته منذ اليوم الأول لرهبنته
( علينا واجبات وليس لنا حقوق )

سجل بصوته في احد عظاته مقولته لا حِل ولا بركة لمن يدافع عني في حياتي أو مماتي

فمنذ أن بدأ خدمته وقد أتخذ مبدأً ومنهجاً لحياته وهوالهروب أو الخروج من اي مكان مهما كان أهميته طالما سيعم السلام في المكان فبعد ان ترهبن في دير أنبا صموئيل في الصعيد يوم 10 أغسطس 1948 [ اختار هذا الدير لأنه كان أفقر دير وأبعد دير عن العمران وأكثرهم عزلة]

كان يطوي الليالي في قراءة الكتاب المقدس بتعمق شديد وفي الصلاة والتسبيح حتى الصباح. وهناك بدأ يخط أولى صفحات أهم وأول كتبه وهو كتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“ ( الذي صدر عام 1952، ونُقِّح وزيد عام 1968، وترجم ونُشر بالفرنسية عام 1977، وبالإيطالية عام 1998، ثم بالإنجليزية ونُشر بواسطة دار نشر ٍSVS التابعة لمعهد سانت فلاديمير اللاهوتي

قام بتعمير دير الأنبا صموئيل وتجديده واحياء الحياة الرهبانية فيه ولما طلب منه ان يتركه ويذهب إلى دير السريان لم يفتح فاه او يعترض

وهناك تقبَّل نعمة الكهنوت رغماً عنه. وعاش متوحداً في مغارة وسط الصخور بعيداً عن الدير، وبعد سنتين، كلف أن يصير أباً روحياً لرهبان الدير وعلى الأخص للشباب المتقدم للرهبنة حديثاً فترهب على يديه الشاب نظير جيد (المتنيح البابا شنودة ) وهكذا صار رائداً للنهضة الرهبانية في الكنيسة القبطية في هذا الجيل.

وكما ذكر ابنائه الرهبان انه أرجع الرهبنة إلى حياتها الأولى وأحيا من جديد روح الآباء النساك الأوائل بحياته الروحية والنسكية على أعلى مستوى، بالإضافة إلى روح أبوة وتلمذة وتدبير لأول مرة في برية الأسقيط منذ عصر الآباء الأوائل، مما جمع الشباب المسيحي حوله.

ومن هنا بدأت أول جماعة رهبانية في العصر الحديث متتلمذة على أب روحي واحد كما كانت الرهبنة في بدء تكوينها.

في 1954 اختاره بابا الإسكندرية الأنبا يوساب الثاني (1946-1956) وكيلاً له في مدينة الإسكندرية ( بعد أن رفع درجته الكهنوتية إلى إيغومانس “قمص”) حيث مكث حوالي سنة وشهرين

ولأنه كان سابقاً لعصره نظّم الخدمة روحياً ومالياً في الإسكندرية بطريقة مذهلة الا أن التنظيم المالي للخدمة أزعج البعض فحاربوه فخرج من الاسكندرية فجراً بهدوء وذهب إلى قلايته بالدير ورفض إلحاح البطريرك والشعب للعودة وشعر ان البرية هي مكانه وبيته

في عام 1959 اختارت السماء أب اعترافه القمص مينا المتوحد بطريركا (البابا كيرلس السادس).

وكان ابونا متي المسكين قدأسس بيت حلوان للتكريس والذي إلتحق فيه كبار الخدام

أصدر البابا كيرلس قراراً بعودة جميع الرهبان إلى أديرتهم فنزل إلى دير السريان وهناك إلتف حوله مجموعة من الرهبان وحين شعر بعدم ترحيب رئيس الدير قرر التوحد في هدوء بمنطقة بعيدة مقفرة تسمى وادي الريان

ذهب وراءه تسعة من الرهبان وعاشوا في مغارات نحتوها في الصخور في منطقة خطرة موحشة وفِي البداية كان من بينهم الأب أنطونيوس السرياني (البابا شنودة الثالث) الذي بقي معهم مدة قصيرة وعاد بمفرده إلى دير السريان ثم سيم أسقفاً للتعليم اما ابونا وتلاميذه بقوا عشرة سنوات في رهبنة توحدية قاسية كرهبنة القرون الاولى كتب فيها ابونا الكبيرنفائس الكتب

قام رئيس دير السريان بنشر اعلان مدفوع الأجر في جريدة الأهرام بمعاقبة الرهبان التسعة الذين خرجوا من ديره فلم يتظلم الأب متي المسكين و لم يرد او يدافع عن نفسه بل أغلق على نفسه مغارته حتى أرسل له البابا كيرلس السادس القمص صليب سوريال ليطلب منه مقابلة البابا وهناك صالحهم بل وطلب من الأب متي المسكين أن يقول له حاللتك. في البداية رفض الأب متي المسكين هذا وقال للبابا بل انت البابا انت تحاللنا ولكن البابا المتضع اصر حتى قال ابونا متى : “حاللتك ياأبي أخطيت حاللني” وصلى له وباركه

ومن حب البابا كيرلس في أبونا متي المسكين ومجموعته وقد شعر بروحه رهبنتهم القوية أختار اثنين منهم في السكرتارية الخاصة به واختار أيضا أحدهم، اسقفا لدمياط (المتنيح الانبا أندراوس) وأعطاهم دير القديس الأنبا مقار ليقوموا بإحياء الحياة الرهبانية هناك.

ثم رشح ابونا متى للبطريركية من العديد من الإكليروس والخدام حينها اصر القائمقام ألا يحسب عشر سنوات توحد ابونا في برية وادي الريان بحجة ان رئيس دير السريان (الذي نشر قرارا فردياً دون إصداره من المجمع) بتجريده ومجموعته من الرهبنة، هنا لم يعترض ابونا بل قال ان دعوته رهبانية ولا يريد اي رتب أو مناصب

التقي الأب متي المسكين السادات في سبتمبر 1981 ووقتها كان مسافرا إلى أمريكا وكان أقباط المهجر يريدون التظاهر ضده، فأخبره السادات وقتها عن نيته لاعتقال البابا شنودة ومحاكمته فقال له المسكين:

“إياك تعمل كده.. الأقباط هيثوروا ضدك، البطرك له مكانته الدينية عندنا وحين نقابله نسجد أمامه ونكرمه.. فإذا كنت تريد إبعاده عن الحياة السياسية، أرسله للدير ولايجب أن تناديه باسمه لابد من مناداته بالأنبا شنودة “

عرض السادات علي الأب متي المسكين قيادة الكنيسة ولكنه رفض ذلك تماما واقترح تشكيل لجنة خماسية من الأساقفة ووقتها استغرب السادات من الأسماء التي اختارها متي معلقا: هناك اثنان من هذه اللجنة بعثا لي تقريرا ضدك فرد ابونا متى المسكين –لا يهمني من كتب ضدي ولكني اخترت الأشخاص القريبين والأصدقاء من البابا، حتي يكون هناك تعاون ولا يحدث أي خلافات بينهم.

أحد المقربين كالأبناء للأب متى المسكين وهو الدكتور ميشيل فهمي الذي عاصر الاحداث واشترك فيها حيث كان ابونا متى يزوره كلما زار القاهرة واعطى تليفونه لرئاسة الجمهورية اذا أرادوا الاتصال بأبونا متى ( لم يكن هناك تليفون محمول في ذاك الوقت) يقول الدكتور ميشيل: ” لا يعرف أحد أن الأب متي المسكين طلب مني توصيل خطاب للرئيس مبارك، كتب له رغم أنه لايعرفه قال له إن استمرار البابا شنودة في الحبس يؤذي الدولة ويسيء إلي سمعتها ولا بد لك من الإفراج عنه”.

ورغم ما فعله أبونا متى المسكين لإنقاذ الكنيسة فلم يتباهى او يرد على من شكك في دوره او من زايد على حفاظه على الكنيسة وباباها وتحمل الهجوم الشديد وأيضا لم يفتح فاه.

قبل نياحته بسنتين حفر مدفن بسيط خارج الدير وطلب ان يدفن فيه بهدوء دون ان تقام له جنازة رسمية يحضرها رتب الكنيسة وقال لا اريد ان يقام لي مزارا او مقاماً وبالفعل في فجر الخميس 8 يونيو انطلق في هدوء إلى السماء ليأخذ مجده هناك من رب المجد الذي هو أيضاً ظلم ولَم يفتح فاه

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.