ماجد سوس
منذ عدة أيام وقف العالم مذهولا من تصرف عجيب قام به بابا روما فرنسيس حينما نزل على ركبتيه، وهو مريض بألم مزمن في ساقه ويبلغ من العمر ٨٢ عاما ويعيش بالرئة اليسرى فقط، حيث قام بتقبيل أقدام زعماء جنوب السودان وقد ركع بصعوبة بالغة متألماً مترجياً إياهم وقف الحرب الأهلية بينهما.
قبل أن يفعل البابا هذا الفعل الغريب اعتكف في خلوة روحية لعدة أيام وحين التقاهم قام أولا بالصلاة معهم ولهم و ألقى عليهم حديثاً روحياً قائلاً : “أطلب منكم كأخ أن تبقوا في سلام.
أطلب منكم هذا من قلبي، دعونا نمضي قِدماً.
نعم ستكون هناك العديد من المشكلات والصراعات فيما بينكم لكنها لن تتغلب علينا.
احتفظوا بها بينكم حلوا مشاكلكم داخل المكتب لكن أمام الناس، ضعوا أيديكم في أيدي بعض لتأكيد الوحدة وستصبحون آباء للأمة”.
ثم قام بتقبيل أرجلهم في تصرف آثار الجميع وأشعل السوشيال ميديا ما بين مُعارض ومؤيد، والمعارضون انقسموا فريقين أحدهم اعتراضه كان لمكانة الرجل الرفيعة حيث كان ينبغي عليه ان يكتفي بالصلاة والنصيحة فقط دون أن يبالغ في تصرفه هذا وهو رأس أكبر كنيسة – عدداً- في العالم بخلاف كونه رئيس دولة وهناك الفريق المعارض الآخر الذي أدان الرجل وحكم عيه أنه فعل هذا من باب لفت الأنظار له أو كما قيل للشو الإعلامي وهي بالطبع إدانة غير لائقة من ناحية وغير منطقية من ناحية أخرى فقداسته لا يحتاج ان يلفت النظر له وخاصة انه بهذه المكانة الروحية التي يقود معها أكثر من مليار واثنان من عشرة كاثوليكي في العالم.
البابا فرنسيس الذي اختار اسمه على اسم شفيعة وقدوته القديس فرنسيس الأسيزي، أحد معلمي الكنيسة في عصورها الأولى خلال لقاءه مع الصحفيين والإعلاميين قال يوماً أنه يريد “كنيسة فقيرة، وتدافع عن الفقراء” وأشار إلى أن القديس فرنسيس كان رجلاً يدافع عن السلام في عالم تتقاذفه الحروب”.
البابا فرانسيس من أكثر باباوات روما اتضاعا في التاريخ فحينما اختاره البابا العظيم يوحنا بولس الثاني في عام ٩٢ ليكون رئيس أساقفة بيونيس آيرس رفض أن يعيش في الفيلا الفاخرة المخصصة لرئيس الأساقفة وطلب أن يعيش في شقة صغيرة ورفض استخدام سيارة ليموزين خصصت له بالسائق وقام بالتحرك باستخدام وسائل النقل العام.
حين أصبح الحبر الأعظم أجرى تعديلات عديدة على التقاليد البابوية، فمثالا احتفظ بالصليب الحديدي البسيط -الرخيص الثمن – الذي كان يرتديه ولم يرتد الصليب الذهبي الذي ارتداه سابقيه. كما أرتدى – بطرشيل – عادي بسيط أبيض بدلاً من بطرشيل أحمر فاخر يرتديه الباباوات والتي يفرضها التقليد، كما قام مباشرة بعد تنصيبه بإلغاء المكافآت التقليدية التي تدفع لموظفي الفاتيكان بعد انتخاب البابا الجديد والتي تقدر مجموعها بعدة ملايين من اليورو، وتبرع بها للجمعيات الخيرية.
وخلال استقباله الكرادلة في اليوم الأول بعد انتخابه، استقبل البابا الكرادلة باتضاع واقفًا غير جالس على عرشه، كما توجه لمصافحة بعض الكرادلة مغادرًا مصطبة مكان وقوفه الذي يطلق عليه العرش البابوي.
رفض الإقامة في القصر الرسولي المقابل لساحة القديس بطرس وقرر أن يسكن في غرفة عادية امام القصر وهولا يدخل القصر ولا يستخدمه سوى حين ينظر من شرفته لتحية شعبه ومباركته يومي الأحد والأربعاء. خرج يوما من حجرته ليلا وقد وجد حرّاسه ساهرين على تأمينه واقفين على ارجلهم طوال الليل فطلب منهم ان يرتاحوا ولا يقفون هكذا.
في عام ٢٠١٣ وفي اتضاع عجيب شكل مجلساً استشاريا من ثمانية كرادلة بوصفهم “مجلس استشاري” يقدم النصح والمشورة له دون أن يكون لهم حق إصدار القرارات وقد طلب منهم إعادة النظر في الدستور الرسولي المنظم للكوريا الرومانية وهي الجهاز الإداري والتنفيذي والاستشاري الذي يساعد البابا في الفاتيكان على إدارة مهامه المختلفة، وقد طلب منهم معالجة النقد الموجه لإدارة الكنيسة وقد وصف الإعلام هذا القرار بأنه “يمثل ثورة في حد ذاته” لأنها أمور كانت دائمة سرية وغامضة.
البابا فرنسيس الذي تعود من قبل تنصيبه رأسا للكنيسة الكاثوليكية أن يذهب إلى السجون والمستشفيات ودور رعاية الفقراء وينحني ويغسل أقدامهم كما فعل السيد المسيح مع تلاميذه يوم خميس العهد، في زيارته الأخيرة لأحد السجون غسل أرجل المساجين ومن بينهم سجينان مسلمان قال يوما للصحفيين
أريد كنيسة فقيرة تخدم الفقراء.
البابا المتضع هذه المرة أراد أن يكون كالمرأة التي كسرت قارورة الطيب الغالي الثمن لتغسل أرجل المسيح بهذا الطيب هكذا فعل أمام قادة جنوب السودان فقد كثر منصبه الغالي المظهر وانحنى أمام شعبه وهذا التصرف العجيب عرفته عن أحد الآباء الكهنة القديسين في كنيستنا القبطية الذي انحنى يقبل حذاء زوج ليسامح زوجته وحين رأى الزوج هذا دمعت عينيه وسامح زوجته فورا متأثراً باتضاع الأب الكاهن الذي ترك كرامته جانباً. وقد كان أبونا القديس ميخائيل إبراهيم يسجد ضارباً ميطانياً حين يزور أي مريض قائلاً المسيح هنا بآلامه.
هكذا فعل يا أحبائي البابا فرنسيس حين رأى أولاده من شعب جنوب السودان وقد قُتل منهم حوالي 400 ألف شخص ونزح منهم بسبب الحروب الأهلية نحو ثلث سكان البلاد البالغ عددهم 12 مليون نسمة، مما تسبب يوماً في اندلاع أسوأ أزمة لاجئين في أفريقيا.
لنتعلم جميعا من هذا الأب الحقيقي الذي قدم للعالم مثال حي للخادم للمسيحي الحقيقي الذي يضيء العالم بالمحبة الباذلة المتضعة فينقص هو من أجل أن يزيد المسيح ويختفي هو كاسراً نفسه كقارورة الطيب التي يفوح عطرها ويملأ الدنيا برائحة المسيح الزكية.