في هدوء لافت ودون إعلان رسمي قررت القاهرة الانسحاب من تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي «ميسا»، أو ما يُعرف إعلامياً بـ «الناتو العربي»، تاركةً العالم يتساءل عن أسباب انسحاب مصر من الناتو العربي.
القرار ظل طيّ الكتمان لأكثر من أسبوع، حتى سُرّب الخبر إلى وكالة رويترز، ومنذ تاريخ نشر الخبر على وكالة الأنباء الدولية حتى الآن لم يعقّب طرف من الأطراف المعنية عليه نفياً أو إيجاباً.
وقد كشفت مصادر مقرّبة من المؤسسة الحاكم في مصر عن أسباب انسحاب مصر من الناتو العربي وتداعياته على العلاقات المصرية/السعودية خاصة والتحالف عامة.
مشروع ترامب الشخصي المدعوم سعودياً، ولكنّ الآخرين كانوا أقل حماساً
تحالف الناتو العربي هو بالأساس فكرة أمريكية، أو لنكن أكثر دقة هي فكرة شخصية مباشرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يهدف منها إلى تكوين قوة عربية على غرار «الناتو» تكون قادرة وجاهزة على مواجهة الأخطار الإيرانية.
وقد لقي هذا الاقتراح ترحيباً بالغاً من المملكة العربية السعودية، واحتفاءً (أقل نسبياً) من الإمارات التي وافقت على أن تكون جزءاً أصيلاً منه وممولاً بارزاً له.
أما مصر فكانت متحفظة منذ البداية.. لن نكون مرتزقة
ومن البداية تحفظت مصر -أو لنكن أكثر دقة- تحفظت قيادات من الجيش المصري على هذا الانضمام لسببين:
الأول أن سياسة هذا التحالف تخالف الخط الاستراتيجي المصري الذي لا يتعامل مع إيران كخطر مباشر يجب التحرك لمواجهته (عكس الرياض مثلاً).
والسبب الثاني هو بند ميزانية التحالف التي تنصّ على أن كل دولة ستدفع 2% من ميزانيتها للتسليح، يخصص منها مبلغ للإنفاق على الناتو العربي.
وبما أن مصر أوضاعها الاقتصادية لن تسمح بسداد هذه الالتزامات، فسيتحول المشهد تلقائياً لأن تموّل السعودية والإمارات التحالف وتشارك مصر والسودان فيها بالقوات، وهو ما يعني ببساطة أن الجيش المصري «هيشتغل» عند السعودية، حسب وصف المصادر.
هذا قد يثير أزمة داخل الجيش
وهذه النظر للناتو العربي يًخشى أن تثير أزمة بين صفوف الجيش المصري الذي ما زال أفراده يتعاملون مع حرب تحرير الكويت بحساسية مفرطة، رغم أنها كانت تحت مظلة دولية.
إلا أن هناك شعوراً دفيناً لدى قطاع غير هيّن من ضباط الجيش المصري بأنهم حاربوا من أجل المال وكأنهم مرتزقة، وهو الأمر الذي لن يقبلوا به مرة أخرى.
هذه الاعتراضات (والحديث مازال للمصدر المصري) نُقلت للرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي أكد لقيادة المجلس العسكري وقادة الأفرع استيعابه التام لهذه المخاوف، وأنه لن يسمح بأن يتحول جيش مصر إلى مرتزقة، مطمئناً إياهم بأن حضور الجيش المصري في الناتو العربي سيكون بشروطنا.
وكان مصدر استخباراتي مصري قد قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 إن القاهرة ستُفشل خطة السعودية لإقامة الناتو العربي.
لكن لماذا اتخذ السيسي القرار الآن؟ .. أسباب انسحاب مصر من الناتو العربي
إذا كانت تلك هي النوايا المصرية منذ البداية، والقاهرة تدرك أيضاً من البداية الهدف الحقيقي للناتو العربي، فلماذا الانسحاب الآن؟
يجيب المسؤول المصري قائلاً: «هناك متغيرات طرأت على المشهد مؤخراً دفعت السيسي لاتخاذ هذا القرار».
أولاً: بسبب التصريح الأمريكي الذي أغضبه
التقارب المصري الروسي بشكل عام وتحديداً في مجال التسليح ويقصد هنا صفقة السوخوي 35 التي اتفقت مصر مع روسيا على الحصول عليها في 2020.
وهي الصفقة التي نجم عنها توتر بين القاهرة وواشنطن، ظهر في تصريح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو مطلع أبريل/نيسان 2019، الذي قال فيه إن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على مصر حال شرائها مقاتلات روسية.
هذا التصريح أثار غضب القاهرة واستوجب محادثات مباشرة بين الرئيس المصري ونظيره الأمريكي الذي تعلل له بأن تصريح بومبيو لم يكن بيديه، إذ إن هناك قانونا لاأمريكيا يفرض على الإدارة الأمريكية معاقبة الدول التي تتعامل في مجال السلاح مع ما يصفه القانون بـ «الدول العدوة»، وأنه لا يمكنه خرق القانون، وهو التفسير الذي لم يلقَ قبولاً مطلقاً لدى الجانب المصري.
ثانياً: اقتراح قدمه الملك سلمان للرئيس المصري بشأن ليبيا
أما السبب الثاني فهو الضغوط التي تعرّض لها السيسي بشكل مباشر من الملك سلمان حيال مناقشة الوضع في ليبيا.
إذ ألمح خادم الحرمين إلى أن الدور المصري في ليبيا يجب ألا يقف عند التدريب والتأمين الجوي لقوات حفتر، بل يجب أن يكون فعالاً أكثر من هذا، وهو ما ترفضه مصر تماماً.
وعليه اتخذ القرار بالانسحاب من الناتو العربي، وتم إخطار الإدارة الأمريكية به.
ترامب حاول إثناءه عن الانسحاب، لكن السيسي أخبره بأنه ليس قراره
الإدارة الأمريكية بعد أن أُبلغت بالقرار طالبت الجانب المصري بالتروّي لحين اجتماع السيسي بترامب وتسوية الأمر بشكل مُرضٍ لكافة الأطراف.
وبالفعل توجّه السيسي إلى العاصمة الأمريكية، وقد حاول ترامب إثناءه عن القرار، إلا أنه أخبره أولاً بأن هذا القرار هو قرار الجيش المصري بشكل مباشر، وأنه لا يستطيع إجبارهم على عكسه.
وهذا الرد لم يعجب ترامب، حسبما قالت المصادر المصرية المطلعة.
القرار أغضب الرئيس الأمريكي شخصياً
وقد تواصلت بعض الجهات الإخبارية مع أحد الدبلوماسيين بالخارجية الأمريكية المتعاملين مع الملف المصري، حيث قال إن القرار المصري غير مفهوم.
وقال أن المصدر الأمريكي إن القرار أثار غضب الرئيس الأمريكي الذي يعتبر الناتو العربي مشروعه الشخصي.
واستطرد المسؤول الأمريكي قائلاً إن انسحاب مصر حتى الآن غير مؤكد، وأن المفاوضات ما زالت جارية.
وهو ينبع من عقيدة الجيش المصري ويرتبط بالقمة الثلاثية
وفي القاهرة ربط اللواء سيد غنيم، مدير إدارة الاستطلاع الحربي السابق، بين القرار المصري بالانسحاب من الناتو العربي والقمة المصرية – الأردنية – العراقية التي عُقدت في القاهرة قبل القرار بأسبوعين، والتي أفرزت عن تحقيق مصالح تجارية وأمنية وسياسية مشتركة للدول الثلاث الواقعة في قلب منطقة مشتعلة تشمل: إسرائيل وسوريا إيران والسعودية.
وقال إنه «وفي جميع الأحوال يجب أن نضع في الاعتبار أن العقيدة العسكرية المصرية دفاعية وليست هجومية على الإطلاق».
حتى الآن ما زالت الرياض تمارس ضغوطها بشكل مباشر على السيسي للعدول عن قراره بالانسحاب من الناتو العربي، والذي قد يعني انتهاء التحالف قبل أن يولد.
وإن كانت المصادر المصرية المطلعة التي تحدثت مع «عربي بوست» ترى أن المؤشرات الأولية تشير إلى أن مصر لن تتراجع عن القرار، كما أنها لن توقف التعاون العسكري مع روسيا.
والسؤال الآن: ما هو رد الفعل السعودي – الأمريكي حيال هذا القرار؟ هذا ما سيتضح في الأسابيع القليلة القادمة.