مختار محمود
عزيزى “ميكافيللى”
مساء الخير
لعلكَ بخير فى قبرك، وإنْ كنتُ أظنُّ غيرَ ذلك. إنما أبعثُ إليك برسالتى تلكَ، ليس لأطمئنَ عليك، فمثلك ليسَ فى حاجةٍ إلى مثلى؛ فأنت تمتلكُ من المكر حياً وميتاً، ما يغنيك عن غيرك.
عزيزى “ميكافيللى”.. لقد أخبرتُك من قبلُ بأننى لا أحبك ولا أقدر أفكارك، ولا أثُمِّنُ منهجك، ورغم أنك لم تُبدِ تضجُّراً يومئذٍ، إلا إننى – مع تقادم السنين والأعوام، وجدتُ نفسى مديناً لك ولى فى آن واحد، فما كان ينبغى أن أتسرعَ فى الحكم على أفكارك فأرفضها وأعتبرها نقيضاً للمثالية والإنسانية، كما أننى مدينٌ لنفسى، لأننى خسرتُ كثيراً عندما أعرضتُ عن طريقتك المثلى.
تذكرُ يا سيد “ميكافيللى”، أننى ثرتُ وغضبتُ عندما أوصيتنى بنطريتك الخالدة: “الغاية تبرر الوسيلة”، ووجهتنى باتخاذها منهجاً وحيداً لى فى حياتى، حتى أدرك النجاح ولا يتخلى أىٌّ منا عن الآخر، ولعلك تذكرُ أيضاً كيف سخرتَ من ردة فعلى، وأشرتَ إلى خادمك وندمائك فى قبرك بأننى قد أكون مجنوناً أو مخبولاً.
لقد أثبتتْ تقلباتُ الحياة معى ومع غيرى – يا سيد “ميكافيللى” – أن نظريتك، التى أفضتَ لى فى شرحها والحديث عن إيجابياتها، هى عينُ الصواب، وأنه لا سبيلَ إلى النجاح فى المدينة غير الفاضلة بدونها.
أذكرُ أيضاً أنك قلتَ لى ناصحاً: ” لا تُحسنْ الظنَّ بأحدٍ، ولا تقدمْ يدَ العون لأحد، ولا تخجلْ من استخدام كلِّ الحيل والوسائل، لتحصل على ما تريد بأقصر الطرق، الموهبة والإخلاص فى العمل – وحدهما- لا يكفلان النجاح”، كما أذكرُ وصيتك: “لا تكنْ مثاليًا، فالمثاليةُ لا تصنع إنساناً ناجحاً، ولكن تصنع السّذجَ”.
عزيزى “ميكافيللى”، لا تنخدع، ومثلك لا ينخدعُ، بكلماتى السالفات، ولا يعنى ندمى على عصيانك، أننى مُقرٌّ بها أشد الإقرار، ومؤمنٌ بها أشدَ الإيمان، كما أنها لا تعنى أننى لو استقبلت من أمرى ما استدبرتُ لا اتخذتها طريقاً لى فى الحياة، فلم يعد يتبقى منها الكثير.
ما دفعنى إلى الكتابة إليك، وأنت فى قبرك، يا سيد “ميكافيللى”، كلماتٌ مريرةٌ كتبَها السيد “رجاء النقاش” عن الصحافة، عندما وصفها بأنها: “مهنة بلا عُرف ولا تقاليد ولا مبادئ ولا أخلاقيات”.
أصارحُك القولَ بأننى تذكرتك، يا سيد “ميكافيللى”، فى اللحظة التى طالعتْ عيناى فيها تلك الكلماتِ الموجعة من صحفى كبير وكاتب قدير وإنسان خلوق، يوصف بأنه “أستاذ جيله وعلم من أعلم الصحافة والنقد والأدب”.
أكتب إليك رسالتى، يا سيد “ميكافيللى” مؤكداً لك أن كل من التزم بنظريتك الشيطانية: “الغاية تبرر الرذيلة” قد أدرك أهدافه وحقق طموحاته ووصل ونفذ.
نعم، ربما تكون نظريتك يا سيد “ميكافيللى” أفسدتْ أجيالاً وراء أجيال، ولكنها اختصرتْ الطريق أمام الكثيرين، من ذوى الضمائر الخربة، والقلوب الميتة، الذين يملأون الدنيا من حولنا كذباً وتدليساً وتزييفاً، فهم فقط المدينون لك بكل ما حققوه وأنجزوه فى حياتهم، فقد اتخذوك إلهاً من دون الله، أو نبياً مُرسلاً، وتعاملوا مع كتابك “الأمير”، باعتباره كتاباً سماوياً.. أما فى الآخرة.. فعندَ اللهِ تجتمعُ الخصومُ.