مختار محمود
منذُ زمن “عنترة” ورفاقه حتى عصر “عمرو دياب” ونجوم الأغنية الرومانسية أفسدَ الشعراءُ العربُ المرأة، تعاملوا معها شكلًا لا موضوعًا، غازلوا تضاريس جسدها، وجرَّدوها مبكرًا جدًا من عقلها وحكمتها وذكائها، حتى أضحت “شبحًا” وجسدًا بلا روح.
إذا دقَّقتَ قراءة قصائد الغزل القديم بنوعيه: “العُذري/ الإباحي”، وصولًا إلى أغانى “عمرو دياب” و”تامر حسنى” و”محمد حماقى” وغيرهم، فلنْ تجدَ إلا كلامًا يُشبهُ بعضُه بعضًا، جميعُهم مفتونون بجمال خارجىٍّ، تارة بالعيون، وتارة بالخدود، وتارة بالقوام الممشوق، وتارة بالشعر والرموش، وتارة بالسيقان، وتارة بالبطن، وتارةً بالأرداف الطبيعىُّ منها والمُصطنع.
بدورها لعبتْ المرأة دورًا كبيرًا في رواج هذه الحالة الشعرية بتنويعاتها المُختلفة من: الجاهلية الأولى وصولًا إلى القرن الواحد والعشرين وحتى يومنا هذا، وارتضتْ وخضعتْ لأن تكون سلعة في “مزاد الشعراء”.
تميلُ المرأة دائمًا إلى مَنْ يصفها بـ”الجميلة”، لا سيَّما إنْ لم يكنْ لها من الجمال نصيبٌ، وتعلنُ الحرب هوجاءَ شعواءَ على من يُقللُ من هذا الجمال المزعوم، أو من يمنحُها عُمرًا أكبرَ من عمرها الذي تخدعُ به نفسَها ومَن حولها، وليس المُدوَّن في شهادة ميلادها، وتلك آفة تتوارثها النساء جيلًا وراء جيل، الأميَّةُ منهنَّ والوزيرة، الجَهولة منهنَّ والعالِمة!
منذُ قرون طويلةٍ خلعتْ المرأة “العربية/ المصرية” عقلها، وصارتْ بلا عقل، وبقيتْ أسيرة الأسطورة الكبرى والخرافة العظمى باعتبارها “جميلة الجميلات”، و”مُحطمة قلوب الرجال”، والنسخة الأصلية للحور العين في جنات عدن والفردوس وضواحيهما.
ها هو “النابغة الذُّبيانى” يُخصِّصُ أبياتًا يتغنَّى خلالها في وصف “فم” حبيته، وكذلك “عنترة” الذي تمنَى تقبيلَ السيوف في الحرب إذا ما انعكس عليها ثغرُ “عبلة” المُتبسمُ، دلالة على افتتانه به، حتى لو كان في ذلك قطعُ عُنقه في ميدان المعركة. أما “امرؤ القيس” فكان مفتونًا بساقى محبوبته، بعكس “الأعشى” الذي كان مُغرمًا في صديقته بـ”شِعرها المُتهدِّج”.
التغنَّي بمفاتن المرأة لم يختفِ أيضًا من شعراء صدر الإسلام، وبقيتْ الظاهرة على حالها، لم يمنعها خجلٌ، ولم يصادرْها حياءٌ، بل ظهر نوع جديد من الغزل بمرور الوقت، وهو “الغزل الإباحي”، وكان أشدَّ جرأة وأكثرَ ابتذالًا، وبعض ألفاظه أشبه بـ “أغانى المهرجانات”!
في العصر الأموي تنامى عِشقُ الجسد عند شعراء تلك الفترة، وكانتْ “المرأة النموذج” عندهم “تلك السمينة، ضخمة العجز، ثقيلة الأرداف”، أو كما وصفها “عمر بن أبي ربيعة” بـ “البقرة”، وهو وصف توارثته بعضُ المجتمعات حتى الآن، وبدا واضحًا في مسلسل “الكبير أوى”، حيث كان البطل عندما يدلل زوجته “هدية” يناديها بلكنة صعيدية: يا “بَجَرة”!
“عمر بن أبي ربيعة” لم يكن بدعة في زمانه، فقد سارَ على نهجه “قيس بن الملوح”، حتى أصابه الجنونُ والشططُ والخَرَفُ بعدما تزوجت “ليلى” غيره. أما “جريرٌ” فإنه كانَ عاشقًا ولهانًا مُتيمًا بعينىِّ حبيته، حتى صارَ شعرُه فيهما مَضربَ الأمثال عندما نظم:
إنَّ العيونَ التي في طرفِها حورٌ قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا.
وفى العصر العباسى، ورغم توهج الحالة الأدبية والإبداعية خلال هذه الحقبة إلا أن التغزُّل في النساء ظلَّ جسديًا حسيًَّا، وأبقى على تعامله مع المرأة باعتبارها جسدًا بلا روح، كائنًا خاملًا لا جدوى من وجوده إلا للمتعة حلالًا كانتْ أمْ حرامًا.
ها هو “فراس الحمداني” المُعتقلُ في سجن الروم لا يزال مشغولًا بحبيبته، ويمتدحُ مفاتنها الجسدية. ورغم ما عُرف عن “المتنبى” من عداوة للنساء، فإنه تورط ووقع في الفخ ذاته عندما أنشد:
وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه ولكن من يُبصرْ جفونك يعشقِ
أما “أبو نواس” فكان مفتونًا بجميع تفاصيل وجه محبوبته حيث أشعر:
تمَّتْ وتمَّ الحُسنُ في وجهها فكلِّ شيءٍ ما خلاها مُحالُ
وفى العصر الحديث، فإنَّ ما نظمَه “نزار قباني” في قصائده عن النساء يؤكدُ أن الظاهرة ازدادت ابتذالًا وتدنيًا، ولم يغادرْ الغزلُ جغرافيا الجسد وتضاريسَه، وهو ما يتضح في تلك الكلمات:
“لم أزلْ منْ ألفِ عام، أحملُ الأنثى على ظهري، وأرسيها على برِّ السَّلام، كنتِ يا سيدتي خرساءَ قبلي، وبفضلي صار نهداكِ يُجيدان الكلامَ، وبدوني لن تري في كتب التاريخ، عفراءَ وليلى، أو ترى هندًا ودعدًا، وبدوني لم يكنْ ثغرُك مرسومًا كخطِّ الاستواء”.
وفي الوقت الذي تعالى فيه صوتُ المرأة في المجتمع المصري، زعمًا بأنَّ “البنت زى الولد، مهيَّاش كمالة عدد”، وازدادتْ وتيرة المطالبات بإنصافها وتمكينِها، فبلغتْ القضاءَ والوزارة، لم تختفِ هذه النوعية من الأشعار، وظلتْ الأغانى الرومانسية -على حالها- تخاطبُ جسدَ المرأة، ولا ترى في الأنثى إلا ضحكة مُنعشة أو عيونًا مُدهشة، مثل: أغنية “عمرو دياب”:” اللي عنده ضحكة زي ديَّا، واللي لون عيونه مش عادية، ييجي هنا جانبي ييجي ليَّا، احكي له اللي شفته أنا بعنيَّا”.
ومن “الهضبة” إلى “تامر حسنى” الذي يتغنَّى بالشفايف: “وأجمل حاجة، وأحلى ما فيكى، شفايفك، همسك كل ما فيكى، عليكى مَشية الله يخليكى، بالراحة عليَّا”.
“محمد حماقى” لم يكنْ أكثرَ حِكمة من سابقيه، بل أبدى استعداده بأن يُضحى بعمره من أجل جميلته: “واللي راضي راضي أموت كمان بس ابقى جنبه، يعني أديله عمري طيب من باب الاحتياط”.
هذه الحالة الفنية انعكستْ على المجتمع بكامل تفاصيلها، فتركز اهتمامُ الأنثى على إبراز جمالها، إنْ وُجدَ، فإنْ لم تكنْ جميلةَ ادّعتْ الجمالَ، من خلال الإفراط في استخدام مستحضرات التجميل، ويكفى مثلًا أن تعلم أن فاتورة واردات مصر من مُستحضرات التجميل والعناية بالشعر وأشياء أخرى خلال الأشهر الستة الأخيرة فقط بلغت 1.7 مليار جنيه، ومن بين ما اشتملت عليه: “حواجب ورموش وشعر صناعي”، فضلًا عن الملايين التي يتم إنفاقها في مراكز التجميل داخلَ مصر وخارجها، على عمليات النفخ والشفط والقصِّ واللزق.. وما خفي كان أعظم!
وفى المقابل لنْ تضبطَ امرأة واحدة تنفقُ من مالها بسخاءٍ على الارتقاء بسلوكها وتنمية قدراتها الذهنية والعقلية وتأهيل نفسِها، لتكونَ زوجة مثالية، وأمًَّا رؤومًا، وإنسانة نموذجية.
وفي عقود الزواج يدفعُ الأهلُ ببناتهم لأعلى سعر ولمن يدفعُ أكثر، ولمن يُوقِّع صاغرًا على أرقام خرافية من المُقدَّم إلى المُؤخَّر وما بينَهما.
أمامَ تلك القناعات الزائفة والمُعادلات المادية الرخيصة ارتضتْ المرأة العربية بصفة عامة، والمصرية بصفة خاصة لنفسها أن تبقى، عبر التاريخ، إنسانًا بلا روح أو عقل، تغضبُ وتثورُ لأتفهِ سببٍ، وتطلبُ الطلاقَ لأتفهِ سببٍ، وتُخربُ البيت لأتفهِ سبب، وتُهرعُ إلى محكمة الأسرة لأتفه الأسباب، وتنتحرُ لأتفهِ سبب، ثمَّ تُبرئ نفسَها من كلِّ شيء، وتدَّعى المظلومية وسط مجتمع ذكورىٍّ لا يرحمُ ضعفَها وقلةَ حيلتها، وهوانَها على الرجال “المُتوحِّشين”!
الجمالُ ليس حجرَ الزاوية في إقامةِ علاقة إنسانية أو أسرية هادئة ودافئة ومستمرة ومُثمرة، ولا يجبُ أن يكونَ السببَ الوحيد لاختيار “الحبيبة/ الزوجة”؛ فما أكثرَ الجميلاتِ المُطلقاتِ اللاتى يتجولنَ في أروقة المحاكم ويتسكعنَ في الشوارع وعلى الكافيهات، بعدما خرَّبنَ بيوتًا ودمَّرنَ أسرًا، وشرَدنَ أطفالًا.
هل تدرون لماذا؟
الإجابة تجدونها في الأغنية الاستثنائية “حلاوة روح” بصوت “حكيم”: “ده عشق الجسد مش دايم، لكن اللي دايم حلاوة روح”.. فارتقوا بأرواحكم.. رجالًا ونساءً.