مختار محمود
فى القاهرة.. لا تتحركُ يميناً أو يساراً دون أن يعترضَ طريقك “سائلٌ”. هم يُرابطون فى إشارات المرور، وأمام المساجد والبنوك وماكينات الصرافة و المتاجر الكبيرة والمتوسطة ويدورون على المقاهى، وأحياناً تنشقُّ الأرضُ عنهم دون سابق إنذار، يحددون أهدافهم بدقة.
لا أتحدثُ عن فقراء مُعدَمين، ولكن أقصدُ من يتخذون من التسول حرفة يتوارثونها جيلاً وراء جيل. ليس لهم “كتالوج” واحد، منهم: الصغيرُ والشيخُ والعجوزُ.. ونساءٌ مُرضعاتٌ يتسولن للإنفاق على مزاج أزواجهن المُتعطلين طوعاً عن العمل انتظاراً للحصيلة اليومية التى يضعها السُّذجُ وحَسَنو النوايا والباحثون عن رضا السماء فى أيادى نسائهم.
حديثو العهد بالمهنة “مُهذَّبون” إلا قليلاً. أما المُحترفون فقد يُلحُّون عليك فى السؤال، فإما أن تعطى عن يدٍ وأنت صاغرٌ، أو تسمع ما لا يُرضيك.
وقائعُ متعددة أثبتت أنَّ بعضاً من هؤلاء المتسولين من أصحاب الحسابات الجارية بالبنوك ومالكى البنايات الشاهقات. متسول “بنى سويف” الذى تم توقيفه منذ فترة قصيرة بأحد شوارع الجيزة تبين أنه يمتلك 4 ملايين جنيه بأحد البنوك الحكومية و4 عمارات فى مسقط رأسه بالمحافظة الصعيدية.
الفقراء الحقيقيون لا يسألون الناس إلحافاً، كما وصفهم القرآنُ الكريم. الأحاديثُ النبوية الصحيحة لم تتعاطفْ مع المتسولين أو توصى بهم حُسناً. عندما سأل سائلٌ الرسولَ الكريم وبَّخهُ، ونصحَه بأن يسعى فى الأرض وإن لم يجدْ إلا حَطباً يبيعه، ولا يسألُ الناسَ أعطوه أو منعوه.
الإسلامُ ليس ديناً يتعاطفُ مع الكسالى والمُتخاذلين ومن يدَّعون الفقر والأمراضَ والعاهاتِ، وسوف أزيدُك من الشعر بيتاً عندما أخبرك بأنه ليس من بين المتسولين فى مِصرَ مسيحىٌّ واحدٌ!!
أسرابُ المتسولين الذى ينتشرون فى قلب العاصمة تحديداً يجسِّدون مشهداً مُعقداً يصعبُ وصفه.
سوف يعتصرُ قلبُك ألماً عندما ترى أحدَهم يُهروِّل وراء سائح أجنبى يُسرع الخُطى مُتأففاً، أو عندما تجدُ سائحة تلتقط صوراً لهم لتعودَ بها إلى بلادها وتنشرها على مواقع التواصل الاجتماعى، حتى يرى العالمُ القاهرة وكأنها غدتْ “مدينة للمتسولين”.
الدراساتُ والأبحاثُ الرسمية، كالتى التى تصدر عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية قدَّرتْ- فى وقتٍ سابقٍ- أعدادَ المتسولين فى برِّ مصر بمليون مُتسوِّل، من بينهم 15 ألفاً يتمركزون فى القاهرة. هذه الأرقامُ لا تبدو واقعية. هذا شأنُ الدراسات الصادرة عن الجهات الحكومية عموماً، فالقاهرة قد تستأثر بالمليون وحدها.
إذنْ.. نحنُ بصدد ظاهرةٍ بغيضةٍ لها دلالاتٌ اجتماعية وأخلاقية خطيرة، التغاضى عنها يفاقمُها ويضاعفُ آثارَها السيئة. هل الأمرُ يتطلبُ “مبادرة رئاسية” مثلاً كالتى يوجِّهُ بها الرئيس كلَّ حينٍ فى ظل تخاذل الحكومة وانتظارها الأمرَ الرئاسى حتى تتحركَ وتتخذَ اللازم؟ أليس فى الحكومة وزيرٌ رشيدٌ، أليس فى مجلس النواب نائبٌ رشيدٌ، أليس من بين كبار المسؤولين مسؤولٌ رشيدٌ، يزعجهم تحوُّل العاصمة إلى “مدينة للمتسولين والمشردين” وأطفال الشوارع وخريجى السجون؟
الأمرُ – على أية حال- يتطلبُ مبادرة متكاملة، لتطهير القاهرة من جميع الظواهر السلبية والقميئة التى تعكِّر أجواءها، وعلى رأسها: ظاهرة التسول البغيضة، خاصة أن مصر سوف تستضيف منتصف هذا العام النسخة الجديدة من بطولة الأمم الأفريقية لكرة القدم.
القاهرة لا يجبُ أبداً أن تظلَّ “مدينة للمتسولين”..