الإثنين , ديسمبر 23 2024
فاروق عطية
فاروق عطية

فاروق عطية يكتب : الدين السياسي ونقد الفكر الديني

عندما تدهورت أحوال الدولة الطولونية في أيامها الأخيرة في مصر (ولاية أبو المناقب شيبان)، تطلعت دولة الخلافة العباسية إلى استعادتها والسيطرة عليها من جديد بعد أن غلَّ الطولونيون يد الدولة العباسية عنها زمنا طويلا، فأرسلت من قبلها جيشا من العراق يقوده محمد بن سليمان لإعادة مصر إلى حوزتها، استمر جيش الخليفة المكتفي بالله بقيادة محمد بن سليمان الكاتب في الاستيلاء علي الممتلكات الطولونية في الشام وفلسطين حتي وصل إلي مصر واستطاع هزيمة جيش شيبان، ودخل الجُنود العبَّاسيّون مدينة القطائع وهدموا وأحرقوا بيوتها وحدائقها حتي صارت خرابا يبابا، وسبوا واغتصبوا نسائها وقتلوا رجالها، وعاملوا الأُسرة الطولونيَّة بِقسوة، وأخرجوها من مصر وأرسلوا أفرادها البالغ عددهم عشرين شخصًا، إلى بغداد مع قادتهم ومواليهم، ونقل معهم آثارهم وتُحفهم، واستصفوا أموالهم، وهكذا سقطت الدولة الطولونيَّة وعادت مصر ولايةً عبَّاسيَّة كما كانت قبل سبعٍ وثلاثين سنة. بسقوط الدولة الطولونية عام 905م عادت مصر لتصبح من جديد ولاية تحت حكم الخلافة العباسية، ومارس الخلفاء حقهم في تعيين وعزل ولاة مصر، لكن لم تتوقف الاضطرابات الناتجة عن ضعف الخلافة العباسية وظل الأمر كذلك حتى عين الخليفة العباسي أبو العباس محمد الراضي بالله عام 935م محمد بن طغش واليا علي مصر، الذي بطموحه أعلن التمرد على سلطة الخليفة العباسي، معلناً استقلاله بحكم مصر وتأسيس دولة تنسب لاسمه هي الدولة الأخشيدية.


الدولة الأخشيدية هي إمارة إسلاميَّة أسَّسها محمد بن طغش الأخشيد في مصر، امتدت لاحقا باتجاه الحجاز والشام. أسس هذه الدولة محمد بن طغش بن جُف الذي كان مملوكا تركيا، عينه الخليفة العباسي أبو العباس محمد الراضي بالله واليا علي مصر سنة 935م، فأقرَّ فيها الأمن والأمان وقضى على المُتمردين على الدولة العبَّاسيَّة، وتمكَّن من الحد من الأطماع الفاطميَّة بِمصر. ولما تمكن من ذلك منحهُ الخليفة لقبًا تشريفيًا فرغانيا هو الأخشيد “ملك الملوك”سنة 939م بناء علي طلبه تكريمًا لهُ ومُكافأةً على عمله. سار الإخشيد على طريق أحمد بن طولون مؤسس الإمارة الطولونية السابقة لإمارته واستقلّ بمصر عن الخلافة العباسية، واستولى على أغلب بلاد الشَّام “فلسطين ودمشق وحمص والأردن عدا حلب التي تركها للحمدانيين” ثم ضم الحجاز إلى دولته. كان الإخشيد واليًا حازمًا يقظًا خبيرًا بِالحرب، شديد الحذر والحيطة على نفسه، فاعتمد على جُنده وحرسه وخدمه.
يذكر المؤرخون أن مصر في ولاية محمد بن طغش الأخشيد قد تعرضت لمجاعة عظيمة وغلاء شديد نتيجة نقص فيضان النيل لمدة ثلاث سنوات مما أدي لإنتشار المجاعة وموت عدد كبير جداً من المصريين وكانت الأزمة عامة على الجميع وليس فقط على الأقباط المسيحيين، كما عاصر المجاعة هجوم النوبيين على جنوب مصر ونهبها. أمتازت فترة الحكم الأخشيدي بتولي الأقباط الأمور المالية والإدارية في الدولة، ولم يشد المؤرخون المسيحيون في كتاباتهم بتسامح الأخشيديين كما اشادوا سابقاً بتسامح الطولونيون، ويدللون على عدم تسامحهم بما فعله محمد بن طغج الأخشيد من إبتزاز أموال الأقباط و فرض الإتاوات عليهم عندما عجز عن دفع مرتبات الجند، مما إضطرهم إلى بيع ممتلكات الكنيسة للوفاء بمتطلباته، كما أرسل فرقة من جيشه إلى مدينة تنيس على ساحل البحر المتوسط فى سيناء فصادر ما فى الكنيسة الملكية بها. تذكر الدكتور سيدة اسماعيل الكاشف في كتابها (مصر في عصر الأخشيديين) أنه لم يسمع في العصر الأخشيدي شيئاً عن التزام أهل الذمة بالقوانين الخاصة بمخالفة هيئتهم لهيئة المسلمين في اللباس والركوب. كما تذكر أن العلاقة بين المسلمين وأهل الذمة في العصر الأخشيدي ظلت طيبة في معظم الاحيان. جاء في كتاب تاريخ الكنيسة القبطية للقس منسى يوحنا صفحة 381 (القسم الثالث – المملكة والكنيسة) عن الدولة الأخشيدية: بعد انقراض الدولة الطولونية قامت هذه الدولة مكانها فحكمت مصر باسم الدولة العباسية لمدة 34 سنة (934-968م) ومحمد الأخشيد رأس هذه الدولة، لما رأى احتياجه للمال لينفقه في الحروب زاد الضرائب المطلوبة من الأقباط. ونشأ من ارتباك الحكم في البلاد مجاعة فادحة يقول المؤرخون نشأ عنها زوال أبروشيات كثيرة برمتها واضمحلالها لأن أقباطها ماتوا من الجوع ولم يبق منهم أحد.
بعد وفاة الإخشيد في دمشق في 25 يوليو 946م، وكان الإخشيد قد عين ابنه الأكبر أنوجور البلغ من العمر أربعة عشر عاما وليا للعهد ليخلفه بعد وفاته، وعين غلامه أبا المسك كافور الحبشي الذي اشتراه يثمانية عشر دينارا وجعله خادمه الخاص وصيًا عليه. استبد كافور بالسلطة كونه الوصي على الأمير الصغير، ولم يتح له أي فرصة للظهور على مسرح الحياة السياسية أو ممارسة أي عمل سياسي، واستمر الوضع على حاله إلى أن توفي أنوجور في ديسمبر 960م. نصب كافور أخاه علي أميرًا على مصر. واستمر كافور يباشر الأمور بنفسه على الرغم من أن الوالي الجديد قد ناهز الثالثة والعشرين من عمره، وعين له المخصصات نفسها التي كانت لأخيه من قبل، وقدرها أربعمائة ألف دينار سنويًا، وكف يده عن الاضطلاع بشؤون الحكم وحرمه من كل عمل، ومنع الناس من الاجتماع به باستثناء ندمائه، فأضحى أسيرًا في قصره لا عمل له إلا اللهو أو الصلاة. واستمر الوضع على ذلك حتى توفي عليّ في 15 يناير 966م. وفي يوم 22 يناير 966م نصب كافور نفسه حاكمًا على مصر وما يليها من البلاد وانفرد كافور بالحُكم، ونشط إلى توسيع رقعة إمارته مُستفيدًا من تضعضُع الدولة الحمدانيَّة، ورضى الخِلافة العبَّاسيَّة عنه. استطاع كافور أن يصمد أمام هجمات الفاطميين القادمين من بلاد المغرب. واستمرّ في الحكم 22 سنة من أصل 34 سنة من حياة الدولة الإخشيديَّة كُلَّها. واعتُبر من الشخصيَّات التاريخيَّة النادرة حيثُ يُعتبرُ بُلُوغه قمَّة الحُكم وهو الخادمُ المملوك، أوَّل حادثةٍ من نوعها في التاريخ الإسلامي، وإن كانت قد تكررت فيما بعد. استغلَّ كافور الظُروف السياسيَّة التي كانت قائمةً في أيَّامه لِمصلحته، فاستفاد من ضُعف الخِلافة في بغداد، ومن الخلاف الناشب بين أُمراء الدُويلات المُجاورة، وحافظ على التوازن في الصراع القائم بين الدولة العبَّاسيَّة المُتداعية في بغداد والدولة الفاطميَّة النامية في المغرب. وعاشت الدولة الإخشيدية فترة مزدهرة خلال حكم كافور، الذي حرص على أن يكون بلاطه ملتقى العلماء والأدباء والشعراء، وتمكن من التوفيق بين الآراء المختلفة للعلماء وأصحاب المذاهب الدينية المختلفة في البلاد، وكان قادرًا على استقطاب الناس إلى صفه من خلال خبرته ومعرفته بطبائع الناس وأساليب معاملتهم، وعرف عنه دهائه وفطنته فقد أبقى السيادة الشكلية للخلافة العباسية، وفي نفس الوقت جارى الفاطميين بالمغرب وأظهر ميله إليهم، وأجلّ أهل البيت وأكرم العلويين وظل الوضع قائمًا هكذا حتى توفي كافور 22 أبريل 968م.


كانت المشاغبات من جانب الأقباط المسلمين ضد أهل الذمة تنشأ (تماما كما يحدث هذه الأيام) حينما يحاول المسلمون تحجيم سيطرة أهل الذمة على الأمور المالية، لكنها كثرت وتوالت في فترة حكم كافور وحينما توالت انتصارات البيزنطيون علي جيوش المسلمين في الشام ودمشق. وحينما دخل البيزنطيون الشام عام 960م قام الغوغاء من عامة المسلمين بتخريب الكنائس في مصر دون ذنب جناه أخوتهم في الوطن، ولكن هجمات الغوغاء هذه لم تكن بتحريض من السلطة والتي لجأت في كثير من الأحيان لاستخدام العنف مع الغوغاء لقمعهم ومنعهم عن الأقباط المسيحيين (ليت حكوماتنا هذه الأيام تعي ذلك وتفعّله). كما امتازت فترة حكم كافور باعتماده علي الأقباط المسيحيين في تولي الأمور المالية والإدارية للدولة، ووصل الأمر إلى تعيين كافور لأبو اليمن قزمان بن مينا وزيراً له، وظل وزيراً له طيلة فترة حكمه، كذلك كان غالبية مسؤولي الترسانات وعمال المراكب في عهده من الأقباط، وسمح لهم باقامة القداسات في مواقع عملهم وعلى المراكب. وبدأت في عهده ظاهرة عقد المناظرات الدينية بين اصحاب الديانات المختلفة. واستمرت هذه المناظرات حتى وصلت لمرحلة متقدمة في عهد الخلافة اللاحقة (الفاطمية).
وبِموت كافور في 22 أبريل 968م ضاع التوازن السياسي الذي كان يُحافظ عليه. وخلفه أبو الفوارس أحمد بن علي، حفيد الإخشيد، وكان عمره أحد عشر سنة، ولم يستطع أن يُقاوم القُوَّات الفاطميَّة التي استولت على مصر، وأسقطت الدولة الإخشيديَّة. وبدأ في مصر والشَّام عهدٌ جديد هو العهدُ الفاطميّ.

 

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.