الإثنين , ديسمبر 23 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

الوطواط

استرخت فى فراشها مستسلمة لنسمة هواء باردة تسللت عبر نافذة غرفتها لتداعب خصلات شعرها الاسود الطويل .

تحب الربيع لكنها تكره طقسه، تحب الربيع بخضرته ووروده الجميلة لكنها تكره عواصفه الرملية وتكره جوه المتقلب ما بين البرد والحر. نهضت من الفراش رافضة الاستسلام للنوم واجرت بعض التمرينات الرياضية السريعة لكى تستعيد نشاطها فبدت كفراشة رشيقة تتحرك فى سلاسة مابين احواض الزهور.

جلست ثانياً على الفراش الملاصق لمكتبها حيث كتبها الدراسية مرصوصة بعناية فوقه…تناولت احدها متصفحة اياه دون تركيز او اهتمام فلم تكن مهيأة لمذاكرة دروسها بعد فهناك العديد من الامور تشغل فكرها ليس من بينها الدراسة. منذ ان ظهر فى حياتها تولد بداخلها صراع لم تكن تتخيله، صراع لم ينعكس على وجهها الملائكى البرىء صراع صامت لم يكن له من نتائج سوى دموع ساكنة تشكو وتعبر عن فشلها فى حسم هذا الصراع.

منذ ان دخل حياتها ذلك الشاب الوسيم دخل معه هذا الصراع الذى لم يشعر به احد سواها..فزميلاتها يحسدونها على اعجاب الشاب الوسيم وتعلقه بها ووفقاً لمقاييسهن ومقاييس هذا الزمان يملك هذا الوسيم كل المعطيات التى تجعل اى فتاة تنجذب اليه وتمنحه حياتها اما هى فلا تنكر انجذابها للوسيم وانشغالها به وكأنه يحمل مغناطيساً يشدها اليه ولكن الغريب فى الامر انها ما ان تبتعد عنه وتعود الى مسكنها حتى تفقد اهتمامها به تدريجياً بل ويصل شعورها الى حد النفور منه وكأنها كلما ابتعدت عن مجاله المغناطيسى كلما قل تأثيره عليها.

انها ليست بالفتاة المراهقة بل هى فتاة ناضجة مكافحة عاشت سنوات دراستها الجامعية فى جد واجتهاد فلم يكن مستغرباً تفوقها الدراسى…وعليها ان تكمل مسيرة تفوقها بعدما بلغت السنة الاخيرة من دراستها. انكمشت فى فراشها وضمت ركبتيها الى صدرها وهى تتذكر الشاب الوسيم مرة اخرى حاولت ان تبحث عن سر تباين مشاعرها نحوه ما بين الانجذاب والنفور فهى تكره هذا التناقض الذى يشبه جو الربيع…انجذبت اليه بمشاعرها كفتاة عادية….

انبهرت بكلماته ووعوده البراقة…بمركزه المالى بسيارته الفارهة، بنظراته الرومانسية الحالمة بأشياء عديدة تراها ويراها معها كل الفتيات فينبهرن وينجذبن ويحلمن بحياة تتمناها اى فتاة على وجه الارض..ولكنها عندما تنفرد بنفسها تتذكر كلماته ووعوده فينقبض قلبها، تفكر فى مركزه المالى فتشعر انها سلعة رخيصة اما نظراته الحالمة فتشعر انها تجردها من ملابسها وتعريها امامه!!!!! ولكن الاهم من كل ذلك هو انه يريد ان يأخذها فى طريق آخر…

طريق لم تألفه بل ويتناقض مع الطريق الذى سارت فيه عمرها كله والذى مهده لها والدها الحبيب الذى هو ايضاً معلمها فى الحياة. ابتسمت وهى تتذكر والدها الذى تفتقده كثيراً فى سنوات دراستها….سنوات غربتها عنه. منذ ان ارتحلت الى المدينة الكبيرة لتكمل دراستها الجامعية وهى تفتقد حضن ابيها الدافىء والذى كان حنانه الفياض يروى ظمأها ويشبع جوعها…

ولكن من قال ان ابى فارقنى؟؟ هكذا قالت لنفسها وهى تمد يدها وتتناول كشكولاً اخذته وفتحته امامها هذا الكشكول الذى شكل دستور حياتها والذى كانت تدون فيه منذ طفولتها نصائح والدها الحبيب وهاهو قد امتلأ عن آخره بمقولات ونصائح الوالد المعلم وهى وان دونت فى كشكولها كل شىء الا انها فى الواقع لا تلجأ لهذا الكشكول كثيراً فكل وصايا والدها محفورة على جدار قلبها.

ابى ليس غائباً عنى فهو معى فى كل خطوات حياتى…لكنها تذكرت كيف تجاهلت الاب ووصاياه واسلمت اذنيها للوسيم . غلبها الحزن وهى تشعر بالهزيمة فكم من مرة قررت ان تلغى وجود الوسيم من حياتها لكنها كانت تضعف امامه وامام كلماته وايضاً امام لوحاته التى كان كانت تطل منها على المستقبل اذا ما قبلت ان تبقى معه، شىء آخر كان يضعفها امام الوسيم هو حسد زميلاتها فكلهن رأين انها الفائزة الوحيدة بالوسيم وانه فضلها عنهن جميعاً وفى هذا ما يكفى لارضاء غرورها البشرى. ثم ماذا بعد؟

هكذا تساءلت والحزن يعتريها…ضاقت بها السبل ولو كان ابوها معها الآن لتبدل حالها فهو دائماً ما يرشدها ويقويها….ولكن – مرة ثانية – من قال ان ابى فارقنى؟ هكذا قالت لنفسها ومضت تحدث اباها وتشكو اليه ضعفها وبعدها عن المبادىء والوصايا التى نشأت عليها ظلت تحدث اباها وكأنه امامها حتى علا صوتها وخشت ان تسمعها احدى الزميلات فى سكن المغتربات….

لكنها توقفت عن مناجاة ابيها وتوقفت عن كل شىء حتى انفاسها حبستها عندما رأت خيالاً يحوم في سرعة كبيرة اسفل سقف الحجرة مباشرة تملكها الرعب وقد ادركت ان وطواطاً قد اقتحم عليها غرفتها وكان رد فعلها الطبيعى ان القت بنفسها من الفراش ثم مكثت لثوان قليلة بين المكتب والفراش ثم دحرجت جسدها الضئيل لتستقر تحت الفراش.

حاولت قدر استطاعتها ان تظل ساكنة وكأن الوطواط سيهبط ليهاجمها فى مكمنها…اغمضت عينيها وبصوت خافت مرتعش تلت ما استطاعت من صلوات وادعية لكى تُكتب لها النجاة…كانت تشعر بحركة الوطواط داخل الغرفة بل ان ازيزه الصامت كان يخترق اذنيها ويستقر داخلها بشعور كريه مُقبض ولا تدرى لماذا فى تلك اللحظات المرعبة مر بخيالها ذلك الفتى الوسيم!!!!. شعرت بالسكون يخيم على الحجرة ، اخرجت رأسها فى حذر فتأكدت من انصراف الزائر الكريه…

خرجت زاحفة من مكمنها وسارعت باغلاق النافذة وجلست على الفراش وقد ادهشها تذكرها للفتى الوسيم فى تلك اللحظات المرعبة…ذكرها الوطواط بفتاها الوسيم !!! اى تشابه هذا بين ذلك المخلوق البشع والفتى الوسيم؟ انه ذلك الازيز الصامت الذى انقبض له قلبها وانزعجت منه روحها..

الوطواط اقتحم غرفتها فعاشت لحظات رعب لم تعشها من قبل والفتى الوسيم اقتحم حياتها فعانت صراعات لم تعرفها من قبل وعلى الرغم من غرابة المقارنة الا انها شعرت بارتياح كبير لها..ولم يطل ارتياحها كثيراً فقد عاد الوطواط -الذى كان كامناً باحد الاركان –

عاد ليحلق فى سماء الحجرة من جديد. انزعجت، هبت واقفة واتجهت ففتحت النافذة لكنها لم تختبىء تحت الفراش هذه المرة بل جلست فوقه وفتحت كشكولها وبدأت فى قراءة وصايا والدها وتجاهلت تماماً ذلك الكائن الذى يحلق فى سماء الغرفة. دقائق قليلة وخرج الوطواط من النافذة المفتوحة فاغلقتها على الفور بمجرد خروجه وعلى وجهها ابتسامة الانتصار. فى اليوم التالى توجهت الى الجامعة….

جلست فى مكانها بين زميلاتها…ظهر الفتى الوسيم يخترق الزحام متوجهاً اليها ليمارس ضغوطه المعتادة باسلحته الغير مرئية اقترب منها، بدأ يتحدث اليها بينما اخرجت هى كشكولها وانهمكت فى قراءته. اختلف الامر لديها هذه المرة فلم تشعر بالضعف امامه ولكن الغريب انه انصرف عنها بعد دقائق قليلة تماماً مثلما انصرف الوطواط….رفعت رأسها وعلى شفتيها ابتسامة الانتصار وهى ترى آخر صورة له وهو ينصرف عنها ويختفى فى الزحام…اما الصورة التى لم ترها هى ورآها الوسيم فكانت صورة ابيها الذى رآه الوسيم واقفاً خلفها ويداه على كتفيها.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.