الثلاثاء , نوفمبر 19 2024
قطار

القطار .

 

فايز تيفال

تنتابني سعادة غريبة وحالة من الإنسجام والمتعة والصفاء النفسي حينما أركب القطار المكيف متجهًا الي اي مكان.
لي ذكريات لا أنساها , محفورة في كياني , مع عربات القطار والأرصفة , والجلوس على بوفيه المحطة.
كنت أختلس اللحظات قبل مجئ القطار , أستنشقها كمحلول عطري , وأتلاشى معها , أجيء وأبقى , أتحسس مكاني , وسرعان ما أبحر في الزمان والمسافة.
كنت أهيم بعيني متفحصًا وجوه الجالسين , وبين يدي فنجان قهوة , أشعر وكأنه يدور كدوران العابرين , هنا وهناك على الرصيف.
في كل مرة كنت أعود محملاً , بكل أنواع الصحف والمجلات وبعض الكتب , الي أن تاتي ساعة العشق والسكون والتأمل التي أنشدها.
يتحرك القطار, يبدأ هذا السكون الذي لا يقطعه غير صوت الكمسري وهو يفحص التذاكر، وصوت بائع المشروبات وهو ينادي ” شاي .. قهوة .. نسكافيه ياحضرات ” ثم ما يلبث أن يعود مرة أخري منادياً: “اللي عنده حساب يا حضرات”
متعتي لا تبدأ فقط منذ اللحظة التي أركب فيها القطار واستلقي علي المقعد , ولكنني أشعر بالسعادة نفسها وأنا ذاهب إلي المحطة , لأحجز التذكرة قبل الموعد بأيام حيث أنتظر اللحظة التي سوف أسافر فيها. وهذا ما يؤكد لي ظني , إنني لا أهتم كثيرًا بالوصول ولا بالمحطات التي أقصدها , أنا أسافر من أجل السفر. أرحل من أجل الرحيل . يشق بي القطار المسافة , فأراني راجعًا إلى الخلف بالذكريات , أو هائمًا بين صفحات الكتب.
أجمل اللحظات التي أشعر بتوقف الزمن فيها , هي لحظة الجلوس بجانب النافذة , هي تلك اللحظة التي أطالع فيها الحقول والفلاحين والحيوانات وهي تمر بسرعة البرق, وكأنني أتفرج على صفحة الأبدية والأجيال تعبر فوقها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها.

تمر اللحظات سريعة , لماذا كل الأوقات الممتعة تتبخر كسحابة زرقاء في وقت قيظ وسط الصحراء؟
لا أدري كيف يمضي الوقت هكذا , إلا عندما أجد غالبية الركاب وهم يهرولون كي يلتقطوا أمتعتهم إستعدادًا لمغادره القطار ، فأفهم أنها المحطة الأخيرة , محطة الوصول الأخيرة , وأشعر بالإنزعاج لأن الوقت مضي هكذا سريعا , مضى وكأنه لم يبدأ بعد , ولم أنتهي من قراءة الكتاب الذي بين يدي.

محطات القطار في كل مكان في العالم عامة وخاصة، كمحطة مصر التي كان يطلق عليها في السابق محطة باب الحديد , هي مصدر إلهام بالنسبه لي … إنني أراها وكأنها دنيا مصغرة لمجتمع كبير يحوي آلاف المسافرين , وهم يهرولون من مكان إلى آخر ومن رصيف إلي آخر . الكل في عجلة من أمره ، يجمعهم كلهم النشاط والحركة والنجاح في ما يسعون إليه.
فهذا شاب أنيق يجري بخطوات مهرولة تجاه الرصيف , وهذه سيدة عجوز تجر حقيبة ثقيلة , وذاك طفل مبهور بكل ما يرى متشبثًا بإصبع يد أبيه , وعيناه تلف المحطة كلها غير مصدق ولا مستوعب لما يراه , وتلك فتاة جميلة تمشي واثقة الخطوة ، ولكن مع زحمة المحطة لا يلتفت إليها أحد..
حاملوا الحقائب يجرون عرباتهم هنا وهناك , وصوت المذيع الداخلي يعلن عن موعد قيام أحد القطارات أو عن قرب وصول بعضها إلى أحد الأرصفة , وصوت بائع الجرائد والمجلات “أخبار .. أهرام .. جمهورية .. اقرأ المساء .. شوف الحادثة”.
كل هذا يغلفه صوت القاطرة العملاقة , التي يشعر محبي القطارات وكأنها أنغام موسيقي موزارات أو بيتهوفن برغم ما تصدره من ضجيج هائل.
كل الوجوه تتلاقى وتتباعد وتفترق إلى الأبد في ثوانٍ معدودة , تلتفت إلى بعضها البعض بنظرات تكاد تخترق القلوب والأفكار , حتى لتشعر وكأنك تعرف ما يفكر فيه الآخر.
في المحطة تتقابل مع كل أنواع البشر , من كل أطياف المجتمع , المثقف المستنير والمتعلم وغير المتعلم والقروي وساكني المدينة وأولاد البلد وأولاد الذوات .
تتقابل مع الكبار والصغار ، الرجال والنساء , وترى كل الوجوه وكل الاشكال .
يخيل إلي أن المحطة ما هي إلا مسرح كبير يلعب فيه الكل أدوارًا صغيرة , ثم سريعًا ما يغادر خشبه المسرح الي الجهة التي يقصدها , وأحيانًا يغادر بتذكرة بلا عودة.
تحتشد محطة القطار يوميًا بآلاف الناس , ويأتي الآلاف غيرهم , كل منهم يكون محملاً بحكايات وقصص , لا يستطيع أي كاتب أو قاص مهما بلغت موهبته وبراعته في الكتابة لنسجها أو تخيلها.
محطة القطار هي الحياة ذاتها. الكل يزورها لحظات أو دقائق ثم يغادرها

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.