تنتابني سعادة غريبة وحالة من الإنسجام والمتعة والصفاء النفسي حينما أركب القطار المكيف متجهًا الي اي مكان.
لي ذكريات لا أنساها , محفورة في كياني , مع عربات القطار والأرصفة , والجلوس على بوفيه المحطة.
كنت أختلس اللحظات قبل مجئ القطار , أستنشقها كمحلول عطري , وأتلاشى معها , أجيء وأبقى , أتحسس مكاني , وسرعان ما أبحر في الزمان والمسافة.
كنت أهيم بعيني متفحصًا وجوه الجالسين , وبين يدي فنجان قهوة , أشعر وكأنه يدور كدوران العابرين , هنا وهناك على الرصيف.
في كل مرة كنت أعود محملاً , بكل أنواع الصحف والمجلات وبعض الكتب , الي أن تاتي ساعة العشق والسكون والتأمل التي أنشدها.
يتحرك القطار, يبدأ هذا السكون الذي لا يقطعه غير صوت الكمسري وهو يفحص التذاكر، وصوت بائع المشروبات وهو ينادي ” شاي .. قهوة .. نسكافيه ياحضرات ” ثم ما يلبث أن يعود مرة أخري منادياً: “اللي عنده حساب يا حضرات”
متعتي لا تبدأ فقط منذ اللحظة التي أركب فيها القطار واستلقي علي المقعد , ولكنني أشعر بالسعادة نفسها وأنا ذاهب إلي المحطة , لأحجز التذكرة قبل الموعد بأيام حيث أنتظر اللحظة التي سوف أسافر فيها. وهذا ما يؤكد لي ظني , إنني لا أهتم كثيرًا بالوصول ولا بالمحطات التي أقصدها , أنا أسافر من أجل السفر. أرحل من أجل الرحيل . يشق بي القطار المسافة , فأراني راجعًا إلى الخلف بالذكريات , أو هائمًا بين صفحات الكتب.
أجمل اللحظات التي أشعر بتوقف الزمن فيها , هي لحظة الجلوس بجانب النافذة , هي تلك اللحظة التي أطالع فيها الحقول والفلاحين والحيوانات وهي تمر بسرعة البرق, وكأنني أتفرج على صفحة الأبدية والأجيال تعبر فوقها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها.
تمر اللحظات سريعة , لماذا كل الأوقات الممتعة تتبخر كسحابة زرقاء في وقت قيظ وسط الصحراء؟
لا أدري كيف يمضي الوقت هكذا , إلا عندما أجد غالبية الركاب وهم يهرولون كي يلتقطوا أمتعتهم إستعدادًا لمغادره القطار ، فأفهم أنها المحطة الأخيرة , محطة الوصول الأخيرة , وأشعر بالإنزعاج لأن الوقت مضي هكذا سريعا , مضى وكأنه لم يبدأ بعد , ولم أنتهي من قراءة الكتاب الذي بين يدي.
محطات القطار في كل مكان في العالم عامة وخاصة، كمحطة مصر التي كان يطلق عليها في السابق محطة باب الحديد , هي مصدر إلهام بالنسبه لي … إنني أراها وكأنها دنيا مصغرة لمجتمع كبير يحوي آلاف المسافرين , وهم يهرولون من مكان إلى آخر ومن رصيف إلي آخر . الكل في عجلة من أمره ، يجمعهم كلهم النشاط والحركة والنجاح في ما يسعون إليه.
فهذا شاب أنيق يجري بخطوات مهرولة تجاه الرصيف , وهذه سيدة عجوز تجر حقيبة ثقيلة , وذاك طفل مبهور بكل ما يرى متشبثًا بإصبع يد أبيه , وعيناه تلف المحطة كلها غير مصدق ولا مستوعب لما يراه , وتلك فتاة جميلة تمشي واثقة الخطوة ، ولكن مع زحمة المحطة لا يلتفت إليها أحد..
حاملوا الحقائب يجرون عرباتهم هنا وهناك , وصوت المذيع الداخلي يعلن عن موعد قيام أحد القطارات أو عن قرب وصول بعضها إلى أحد الأرصفة , وصوت بائع الجرائد والمجلات “أخبار .. أهرام .. جمهورية .. اقرأ المساء .. شوف الحادثة”.
كل هذا يغلفه صوت القاطرة العملاقة , التي يشعر محبي القطارات وكأنها أنغام موسيقي موزارات أو بيتهوفن برغم ما تصدره من ضجيج هائل.
كل الوجوه تتلاقى وتتباعد وتفترق إلى الأبد في ثوانٍ معدودة , تلتفت إلى بعضها البعض بنظرات تكاد تخترق القلوب والأفكار , حتى لتشعر وكأنك تعرف ما يفكر فيه الآخر.
في المحطة تتقابل مع كل أنواع البشر , من كل أطياف المجتمع , المثقف المستنير والمتعلم وغير المتعلم والقروي وساكني المدينة وأولاد البلد وأولاد الذوات .
تتقابل مع الكبار والصغار ، الرجال والنساء , وترى كل الوجوه وكل الاشكال .
يخيل إلي أن المحطة ما هي إلا مسرح كبير يلعب فيه الكل أدوارًا صغيرة , ثم سريعًا ما يغادر خشبه المسرح الي الجهة التي يقصدها , وأحيانًا يغادر بتذكرة بلا عودة.
تحتشد محطة القطار يوميًا بآلاف الناس , ويأتي الآلاف غيرهم , كل منهم يكون محملاً بحكايات وقصص , لا يستطيع أي كاتب أو قاص مهما بلغت موهبته وبراعته في الكتابة لنسجها أو تخيلها.
محطة القطار هي الحياة ذاتها. الكل يزورها لحظات أو دقائق ثم يغادرها