الإثنين , ديسمبر 23 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

اللص البرىء

عقد الكوفية حول رأسه ليتجنب برودة الفجر، لم يستعد نشاطه وحيويته بعد فلم يكن نومه مريحاً فى ليلته الماضية وتلك هى عادته عندما ينوى السفر مبكراً….

الظلام مازال يحجب نور الفجر الذى يحاول الظهور فى الافق البعيد ليعلن بدء يوماً جديداً. يسير فى شارع واسع يؤدى فى نهايته الى موقف اتوبيس المحافظات ،

كان يظن انه يسير وحيداً مع الاخذ فى الاعتبار اصوات القطط العابثة بصناديق القمامة والكلاب الضالة التى تتجمع على رؤوس الشوارع الجانبية لكن سعال الصباح وحشرجة الحناجر التى تأتى من هنا وهناك تعلن عن وجود آخرين يشاركونه السير فى الشارع الفسيح لكن الظلام لا يسمح له برؤيتهم،

واصل سيره ويمناه تقبض بشدة على حقيبته السامسونايت الصغيرة التى حوت كل الاوراق والمستندات التى تثبت شخصيته وتثبت ايضاً ملكيته لقطعة الارض الصغيرة فى بلدته والتى هو الآن فى طريقه الى بيعها ليكمل بثمنها حلم حياته فى تأسيس عيادة لعلاج الاسنان بالقاهرة الكبرى. اتم الاتفاق على كل شىء وماهى الا ساعة او ساعتين يتمم فيها اجراءات البيع ويعود بعدها الى القاهرة لكنه سيعود بتاكسى مخصوص الى البنك رأساً ليودع ثمن الارض فى حسابه فمن المخاطرة العودة بالاتوبيس وبحوزته آلاف الجنيهات.

ارتفعت اصوات غريبة لم يتبينها اتت من احد الشوارع الجانبية التى كان يجتازها فى طريقه لكنه سمع بوضوح صياح رجل يسب ويلعن ثم اصوات اقدام كثيرة تجرى وتقترب…..اتسعت خطواته بتلقائية بغية الابتعاد عن مصدر الصوت القادم من بعيد…اجتاز الشارع الجانبى وسار بسرعة اكبر ثم ….بدأت خطواته تتسع اكثر فأكثر كلما كانت الاقدام التى تعدو تقترب منه،

” مش ح اسيبك يا ابن ال…..” كان هذا الصوت الاكثر وضوحاً والذى اوضح ايضاً ان اقدام الشخص- او الاشخاص- قد صارت فى الشارع الرئيسى واصبحت اكثر قرباً منه وبدون ان يشعر، ودون ان ينظر خلفه انتقلت حُمى الجرى اليه فاحتضن حقيبته واطلق ساقيه للريح.

انتابه الرعب وهو يجرى عندما تأكد بأن الخطوات الراكضة خلفه هى لشخصين وانها تقصده هو بالذات ولعن اليوم الذى ادمن فيه التدخين عندما لهثت انفاسه وخانته قوته والخطوات الراكضة خلفه تكاد تلمسه.

لحيظات وشعر بجسد قوى يرتطم بظهره ويطرحه ارضاً فى قسوة بينما امتدت يدان لتنتزع الحقيبة من تحته ثم ركلة او ركلتين فى انحاء جسده زادته الماً… ثم يكتمل المشهد باضواء سيارة تقف على مقربة منه ينادى قائدها على ضاربيه فيذهبا معه بحقيبته.

شعر بجسده كله يتألم، لملم بقاياه وتكوم على الارض ونظر حوله فلم يجد احداً!! الم يلفت مشهد المعركة نظر احد فى الشارع؟ بالفعل كان غريباً ان المشهد لم يكن مثيراً لفضول احدهم ليقترب حتى كمتفرج !! تمنى لو ان احد المارة يقترب منه مواسياً ويعطيه رقم السيارة التى استقلها اللصوص ولكن هيهات ويالسلبية هؤلاء البشر.

نهض وهو يتأوه وشعر بطعم الدماء على شفتيه كان قد اقترب من موقف اتوبيس المحافظات فاتجه رأساً الى دورة المياة الملحقة بالكافيتيريا نظر فى المرآة الى وجهه الممتلىء بالسحجات وشفتيه المغطاه بالدماء ثم فتح صنبور الماء ووضع رأسه تحته متحملاً برودة الماء التى افاقته تماماً ثم خرج وجلس فى الكافيتيريا وطلب كوباً من الشاى وبدأ فى التفكير فيما عليه ان يفعل وكيف يتصرف….محضر بقسم الشرطة وهل سيكون مجدياً…ماذا سيفعل اللص او اللصوص فى الاوراق والمستندات؟ بالطبع سيأخذون النقود…ليس مهماً….رُزمة من الاوراق المالية فئة الخمسون جنيهاً سحب منها مائتى جنيهاً تقريباً ولكن لا يهمه فقدان النقود لكنها الاوراق والمستندات والتى سيمضى وقتاً طويلاً حتى يستخرج لها بدل فاقد.

هل يستقل الاتوبيس ويذهب الى بلدته ليعتذر للمُشترى ام يكتفى بمكالمته تليفونياً ؟ تساؤلات عديدة وافكار متضاربة راودته كان اهمها على الاطلاق مصير الاوراق وهل سيكون اللص “ابن حلال” ويكتفى بالنقود ثم يضع الحقيبة بما تحويه من أوراق ومستندات فى اى مكان؟ وهل من سيجد الحقيبة سيهتم باعادتها الى صاحبها؟ وماذا لو فكر اللص فى التخلص من جسم الجريمة ويقوم بالتخلص من الحقيبة والمستندات بحرقها او ….يا الهى…آلاف الافتراضات مرت امامه غادر بعدها الكافيتيريا عائداً الى منزله.

بعد حمام دافىء استقر رأيه على زيارة امجد صديقه ضابط الشرطة ليستشيره فى الامر فارتدى ملابسه وخرج قاصداً قسم الشرطة. لم يمنحه امجد اى امل فى القبض على اللصوص واستعادة الحقيبة خاصة وليس لديه اى معلومات او علامات تخص اللصوص وقد فهم منه ان مثل هذه الحوادث تحدث عشرات المرات فى اليوم الواحد لكنه نصحه بعمل محضر ليتمكن بموجبه من استخراج بدل فاقد لكل مستنداته واوراقه الشخصية. امضى اليوم بقسم الشرطة مع صديقه القديم فكان شيئاً جديداً بالنسبة له حاول من خلاله نسيان واقعة السرقة وان كانت قد تركت آثاراً مؤلمة فى انحاء جسده.

عند الغروب كان يجلس فى منزله عندما سمع طرقات على الباب نهض متثاقلاً متألماً فتح الباب فوجد امامه شخصاً غريباً ضخماً يبتسم له فى بشاشة لكنه تجاهل كل هذا عندما وقعت عيناه على يده الممتدة اليه بحقيبته المسروقة…اطلق صيحة فرح وهو يحتضن الحقيبة التى لم يتوقع ان تعود اليه بمثل هذه السرعة….شكراً لله شكراً لله قالها وهو يمسك بيد الشخص يدعوه فى الحاح للدخول ودخل الرجل على مضض. كيف واين وجدتها؟ سأله قبل ان يفطن الى انه يجب عليه مضايفته اولاً لكن الرجل اعتذر فى لطف لارتباطه بموعد هام وبادره الرجل بالحديث بانه بالطبع قد فتح الحقيبة وتعرف على الاسم والعنوان اما هو فشكره ممتناً على احضارها بنفسه وكان يكفيه ان يتصل به ويطلب حضوره ليتسلم حقيبته بنفسه…مازالت الدنيا بخير قالها وهو يفتح الحقيبة فوجد الملف البلاستيكى الذى حوى كل اوراقه وابتسم شاكراً الرجل الذى نهض بسرعة مودعاً اياه.

تعاظمت فرحته حتى انه قفز فى الهواء وغنى بصوت عال ورقص محتضناً الحقيبة وفتحها ثانياً وتنبه هذه المرة بأن رُزمة النقود مازالت موجودة!!!! يا الهى اى لص هذا…اندفع بسرعة فاتحاً الباب وقفز درجات السلم وفى الشارع تلفت يميناً ويساراً فوجد الرجل الذى اتاه بالحقيبة وقد ادار مفتاح سيارته فجرى مسرعاً ونقر باصابعه على نافذة السيارة…ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة وفتح له باب سيارته فجلس بجواره “عفواً سيدى لا اريد ان اعطلك” حكى له عن واقعة الضرب والسرقة وكيف انه وجد النقود كما هى فى الحقيبة وسأله فى الحاح كيف واين وجد حقيبته. نظر اليه الرجل فى هدوء وحكى له ما اراد ” كنت خارجاً من الفيللا التى اسكنها ومعى ابنى وكانت معى ايضاً حقيبتى السامسونيت التى حوت آلاف الدولارات، كان من المفترض ان يأتى اخى بسيارته لنذهب جميعاً لابرام صفقة خاصة بعملى . وفجأة وفى الظلام فوجئت بشبح يخطف الحقيبة من يدى ويجرى فجريت خلفه انا وابنى حتى وصلنا الى قمة الشارع وفى الظلام اختلط علينا الامر ووجدنا شبحاً يجرى محتضناً حقيبة سامسونيت فهجمنا عليه …ثم…ثم ابتسم وهو ينظر اليه قائلاً واظنك تعلم بقية القصة.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.