توجد ثلاثة تفسيرات ممكنة لما يحدث في السعودية على مدار الأسابيع القليلة الماضية، والتي يبقى أبرزها تراجع المملكة عن رؤية 2030 التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان واعتبر مهندسا لها ولمستقبل المملكة، على أن تعود إلى نهج أكثر حذراً وتمسكاً بالتقاليد. وحسب تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية، تتضمن التحركات المحيرة انخفاضاً في إنتاج النفط لشهر يوليو/تموز، في وقت كان من المفترض أن يرتفع الإنتاج تماشياً مع الالتزامات العامة.
فضلاً عن أنَّ طرح اسهم شركة أرامكو المملوكة للدولة للاكتتاب العام، الذي جرى التعهد به منذ فترةٍ طويلةٍ، أُرجئ إلى أجل غير مسمى، وفي الوقت نفسه تتأهب أرامكو على مضض لشراء شركة سابك للكيماويات التي تمتلكها الدولة. وفُتحت أبواب صراع غير ضروري استجابة لبعض التعليقات الكندية غير الحادة، حول سجل السعودية في حقوق الإنسان. إضافة إلى أنَّ صندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادي المملوك للدولة، قد يلتزم أو لا بتقديم التمويلات اللازمة لمساعدة إيلون ماسك في تحويل شركته تسلا إلى شركة خاصة.
ثلاثة تفسيرات لما يحدث في السعودية
يشمل التفسير الأول لكل هذا، أنَّه بسبب اضطراب أو أوجه عجز أخرى لا يتولى أي من الملك سلمان وولده، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، قيادة البلاد كلياً، مما يترك كل الهيئة المنفردة التي تدير البلاد دون قيادة واضحة. وينطوي التفسير الثاني على أن الأمير محمد بن سلمان قرَّر تسريع وتيرة خطته المسماة رؤية 2030 التي تبنّاها في عام 2016. فيما يتضمَّن التفسير الثالث، على النقيض من هذا، أنَّ قيادة البلاد -وهي كيان جماعي أوسع نطاقاً يعتمد على أبناء العائلة المالكة فضلاً عن امتداده ليضم المسؤولين والدبلوماسيين الرئيسيين- تتراجع عن رؤية 2030، وتعود إلى نهج أكثر حذراً وتمسكاً بالتقاليد، وهو نهج مُصمَّم في المقام الأول لاستمرار سيطرة آل سعود على الحكم.
أي هذه التفسيرات الأكثر قرباً للتحقق!
التفسير الأول هو الأكثر شيوعاً في السوق، غير أنَّ هناك قليلاً من الحجج اللازمة لدعمه. فقد عُرف عن ولي العهد سابقاً أنَّه يتصرف على نحو شارد وغير منظم. يبدو التفسير الثاني غير مرجح نظراً إلى فشل الحكومة السعودية في الوفاء بأي من المشروعات الرئيسية التي أعلنت عنها في عام 2016. فلم يكن هناك تنويع في الاقتصاد، ولا تزال البلاد معتمدة على النفط كسابق عهدها دائماً.
الأمير بن سلمان كان يعتبر “مهندس” رؤية 2030
ولم يكن هناك أي عمل مشهود في مشروع نيوم، وهو مشروع تبلغ تكلفته 500 مليار دولار لمدينة ستُبنى في شمال غربي البلاد.
بل ربما يكون الشيء الأكثر أهمية هو أنَّه ليس هناك إدخار من العائدات. فقد ساعد ارتفاع أسعار النفط، غير أنَّ الفائدة كانت محدودة بسبب خفض الإنتاج وبطء وتيرة الاقتصاد، الذي انكمش في العام الماضي بنسبة 0.7%، إلى جانب ارتفاع نسبة البطالة إلى 12.7%. وتمثَّل التقدم الوحيد الذي أنجزته الإصلاحات حتى هذه اللحظة في أن بعضاً من النساء المُرفَّهات صرن قادرات على قيادة السيارات.
تبدو احتمالية التفسير الثالث أكثر رجحاناً، بالرغم من أنَّ العودة إلى القواعد التقليدية ليست بالتأكيد عودة تامة.
وهذا يبدو واضحاً عندما يتعلق الأمر بالمال، فهل تتخلى عن رؤية 2030
يكمن الدليل الأوضح على هذا الاستنتاج في الصفقة بين أرامكو وسابك، القائمة على جمع المال عن طريق الاقتراض بدلاً من بيع الأصول أو فقدان السيطرة: ستقترض أرامكو التمويلات اللازمة لإتمام الشراء، ثم تعطي الأموال إلى الحكومة، باعتبارها مالكة سابك. ويُتَجَنَّب طرح فوضوي لأسهم أرامكو للاكتتاب العام، لحفظ ماء الوجه إذا قُدِّرت الشركة بـ800 مليار دولار أو 900 مليار دولار بدلاً من القيمة التي أرادها محمد بن سلمان، وتتجاوز التريليوني دولار. وتُنحَّى جانباً الفكرة الجوهرية بجعل أرامكو شركة مستقلة فعلياً. في سوق النفط، يبدو أنَّ السعودية استعادت أيضاً دور المنتج المتحكم، مُحافظة على ثبات الأسعار عند متوسط 70 دولاراً للبرميل. ومع ارتفاع حجم الإنتاج في مكان آخر (في الكويت على سبيل المثال) إلى مستوى أعلى من المتوقع، فموازنة السعودية للسوق عن طريق إنتاج كمية أقل بقليل يُمكنها أن تفسر الأرقام المنخفضة غير المتوقعة لشهر يوليو/تموز. ويوجد أيضاً درجة جديدة من الواقعية عندما يتعلق الأمر بالغاز الطبيعي، مثلما ظهر في الأسبوع الماضي بقبول فكرة الحاجة إلى كميات كبيرة.
وقد يتجاوز النهج الجديد مجال الطاقة
فيبدو أنَّ سياسة تقليص أعداد العاملين في القطاع العام، التي هي أحد مقترحات رؤية 2030 انتكست هي الأخرى، في ظل نقاش دائر حول توفير 500 ألف وظيفة أخرى لتقليل مستوى البطالة. ويشير الخلاف مع كندا إلى أن الأمن الداخلي وقمع المعارضة أهم من حقوق الإنسان أو تطوير صورة السعودية على الصعيد الدولي. (وصل عدد أحكام الإعدام في المملكة هذا العام إلى 73 حكماً). وعندما يتعلق الأمر بشركة تسلا، فالتفسير قد يكون مرتبطاً بالولايات المتحدة وليس السعودية . أعلن عن الصفقة ماسك ولم يُقر بها أي مسؤول سعودي. ويجب أن يكون السؤال الرئيسي هو: من يمكنه الاستفادة من فكرة أن السعوديين كانوا على وشك الاستثمار في تسلا؟
لكن العودة إلى «السلوك التقليدي» تتطلب شروطاً معينة
تتضمن عملية العودة إلى السلوك التقليدي بعضاً من الطرق لانتهاجها. فالخطوة القادمة المحتملة ستكون وقتاً مستقطعاً في الصراع اليمني، الذي كشف عن ضعف الجيش السعودي. فقد صار من الواضح أن السعودية لا تستطيع مواجهة إيران في سلسلة من الصراعات المنتشرة في أنحاء المنطقة. وبعد ذلك، يمكن أن تأتي نهاية للنزاعات التي لا داعي لها مع قطر وكندا، وعودة إلى السياسات البراغماتية التي تبنّتها السعودية تحت قيادة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. والسعودية الآن هي مجتمع معقد يحظى بقيادة أكثر تطوراً وواقعية مما يتخيل كثيرون في الغرب. وكانت السنوات الثلاث السابقة حالة من الانحراف، فهي حالة من عبادة الشخصية تبدو غريبة على ثقافة مجتمع محافظ عازم على صيانة خصوصيته المحافظة. كانت الإصلاحات ضرورية، ولا تزال كذلك، غير أنها لن تتحقق عن طريق الرؤى الكبرى. لن تكون العودة إلى التقاليد يسيرة، ولن تحل مشكلات البلاد، لكنها يُمكنها تقديم مزيد من الاستقرار إلى المنطقة وإلى سوق النفط.