حازم حسين
كتير من المسلمين، ونتيجة جهل بالآخر، مش مقدرين حجم الموضوع ولا الكارثة اللي فيه. دي أول مرة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية يُقتل أسقف ورئيس دير في مقر خدمته بطريقة دموية عنيفة. في تاريخ الكنيسة الممتد لحوالي عشرين قرن فيه حوادث تُعدّ على أصابع الإيد الواحدة، أضخمها القتل بالسم.
دير الأنبا مقار من الأديرة اللي ليها طبيعة خاصة جدا. الدير ده فضل خارج ولاية الكنيسة سنين طويلة. بدأ الموضوع بدري شوية من زمالة القمص متى المسكين والأنبا شنودة (وقت ما كان اسمه أنطونيوس السرياني بعد رسامته راهبا في 1954) وقتها حصل خلاف فكري بينهم في دير الأنبا صموئيل في المنيا، يبدو إنه أنشأ عداوة في صدر الراهب الشاب أنطونيوس، وكان طبيعي يتطور الأمر مع وصوله لكرسي مرقس الرسول في 1971. اتطورت الخلافات جدا ووصل الأمر لعزل القمص متى المسكين في دير الأنبا مقار، وطول سنين ظل الدير بعيد عن سلطة الكاتدرائية لحد نياحة متى المسكين في 2006، بعدها بدأ البابا يبص للدير وخطوة خطوة استرجعه لولايته في 2009.
في السنين دي ازدهرت مدرسة متى المسكين في الدير، وهي مدرسة علم ولاهوت بالأساس وملهاش علاقة بتعقيدات الإدارة وتسيير شؤون الكنيسة، علشان كده كان طبيعي العودة لسلطة الكنيسة تتسبب في مشاكل مع البطريرك والمجمع المقدس ولجنة الرهبنة والأديرة، سواء في تمرد بعض الرهبان، أو جمع بعضهم لتبرعات بشكل مخالف لقواعد الكنيسة. لكن كان التطور الدرامي إن السنين من 2006 لحد دلوقتي تم زرع رهبان من خارج مدرسة متى المسكين في الدير، ودول اللي بعضهم عمل مشاكل كبيرة في السنين الأخيرة وطوال رئاسة الأنبا إبيفانيوس للدير.
من الرهبان اللي عملوا مشاكل يعقوب المقاري وأشعياء المقاري، الأول جمع تبرعات وحاول بناء دير خارج التنسيق مع الكنيسة، وبالفعل البطريركية ما اعترفتش بيه وتم طرده من الدير، والتاني دخل صراع مع الأنبا إبيفانيوس كان سبب في اتخاذ الأخير قرار بطرده من الدير في فبراير 2018، لكنه جمع توقيعات من عدد من الرهبان بيطالبوا ببقائه ووقع إقرار بالخضوع لسلطة الأنبا إبيفانوس، ومر الأمر بشكل يبدو هادئ، لكنه في الحقيقة ما كانش هادئ خالص.
النهارده تناقلت بعض المواقع أخبار عن قرار البابا ولجنة الأديرة وشؤون الرهبنة بشلح اتنين من الرهبان، والاتنين دول هما يعقوب وأشعياء مش حد تاني. لكن بعد ساعتين خرج المتحدث باسم الكنيسة، القس بولس حليم، نفى الأمر تماما وقال نقلا عن الأنبا دانيال سكرتير المجمع المقدس وأسقف المعادي إن لجنة شؤون الرهبنة ما أصدرتش أي قرار في الشأن ده.
الأنبا إبيفانيوس مش من الأساقفة المزعجين. الراجل كان عازف تماما عن الإعلام والظهور العام، ومركز في العمل البحثي واللاهوتي، وده تحديدا أكبر نشاط لدير الأنبا مقار اللي يُعد أحد أهم المعاهد العلمية وجهات النشر في الكنيسة الأرثوذكسية. وكمان تاريخ الراجل في الرهبنة ما يخليهوش مصدر قلق (رسامته في 1984 وسيامته الأسقفية 2013) وبجانب إخلاصه لمدرسة متى المسكين اللي ملهاش شعبية للأسف في الأوساط الكنسية العليا، وعلاقته الإنسانية الودودة بالبابا تواضروس. كلها ما تخليهوش شخص مزعج أو مثير للقلق أو في دائرة ترصد أي حد من خارج الدير (باستثناء الصقور والمتطرفين).
تصوري الشخصي إن قرار شلح يعقوب وأشعياء اللي نفاه متحدث البطريركية قرار صحيح، ربما الكنيسة تراجعت عن إعلانه لأسباب تخصها، وبحسب المعلومات المتاحة قاتل الأنبا إبيفانيوس واحد من الاتنين، وبالفعل هيمثل للتحقيق قدام النيابة بناء على اتهام رسمي خلال ساعات، خصوصا بعد العثور على أداة الجريمة والتوصل لراهب شاب عاون المتهم في جريمته (متحفظ على تحديد هويته لحد النيابة ما تعلن الموضوع).
بشكل شخصي مختلف مع موقف الكنيسة بنفي قرار الشلح أو تأخير إعلانه، لأن أي موقف قانوني ضد القاتل قبل تجريده من رتبته الكهنوتية هيأجج مشاعر الأقباط وشكوكهم وهيدفعهم لتفسير الأمور بطريقة سطحية، خصوصا إن كتير منهم لسه مش عايزين يستوعبوا حقيقة إن الكهنة بشر وممكن يتورطوا في الخطيّة ودنس العالم عادي، وتنزيههم لرجال الإكليروس ده هيدفعهم لمسلك إنكاري ولو بالتشكيك في المسار القانوني واتهام جهات التحقيق بتلفيق التهمة للراهب. ودور الكنيسة اللي مطلعة على التفاصيل وسير التحقيقات إنها ما تسمحش بحالة البلبلة دي.
حادث قتل الأنبا إبيفانيوس حادث استثنائي زي ما قلت، والمؤكد إن أمور الكنيسة بشكل عام، والرهبنة بشكل خاص، هتتغير كتير على خلفية الحادث ده، ولعل الشاهد الأبرز قرارات لجنة الرهبنة والبابا من كام يوم إللي جانب كبير منها اشتبك مع مخالفات ضخمة بتحصل من كتير من الرهبان سواء في مسلك حياة البريّة أو في التعامل مع الأمور المادية والإعلامية. واللي ممكن يغيب عن ناس كتير إن الكنيسة بتواجه مشكلة حقيقية مع تضخم حجم الإكليروس بشكل مبالغ فيه.. لك أن تعلم إن البابا شنودة في عصره رسم مئات الرهبان وآلاف الشمامسة والخُدّام وفي الفترة نفسها تمت سيامة 100 أسقف وأسقف عام، والأرقام دي قد اللي دخل الخدمة في الكنيسة الأرثوذكسية في القرن السابق على البابا شنودة وربما أكتر.
أقدر أقول إن الحادث الأخير مش مجرد راهب قتل أسقف ورئيس دير، مش يعقوب أو أشعياء أو فيلمون أو الأنبا إبيفانيوس، وإنما الحادث تجسيد عصري لصراع البابا شنودة والقمص متى المسكين، لرؤية الكنيسة المتجددة وتكلس «حماة الإيمان»، لمدرسة المسكين العميقة في التعامل مع اللاهوت وروح الكرازة الموروثة في كرسي مارمرقس، ومدرسة شنودة المعجونة بالسياسة وإقحام اللاهوت والكنيسة في السياق الاجتماعي وخناقات المجال العام.
التحدي الأكبر لكرسي مارمرقس الرسول دلوقتي هو التخلص من ميراث البابا شنودة، سواء كان أساقفة لا يستحقوا السيامة، أو رهبان موحولين في الخطية ودنس العالم، أو توظيف للاهوت والكنيسة في السياسة، وتحويل الهياكل والمذابح لسجون و«جيتو» بيعزل الأقباط عن مجالهم العام ومجتمعهم وحقهم المباشر في بلدهم، علشان يفضل البطرك زعيم سياسي عنده مركز معنوي ومادي قدام الدولة، زي ما عمل الأنبا شنودة طول سنين حكم مبارك.
ربما يحقق دم الأنبا إبيفانيوس اللي ما عرفش إخلاص ونقاء القمص متى المسكين يحققه.. قلبي مع البابا تواضروس في صراع أتصور إنه الأخطر في تاريخ الإسكندرية منذ عصر المجامع والانشقاقات الكنسية.
* الصورتين: الأنبا إبيفانيوس، ولائحة التوقيعات المطالبة بالإبقاء على أشعياء المقاري في دير الأنبا مقار.
#الأنبا_إبيفانيوس
#المسكين_والبابا
#ميراث_الأنبا_شنودة
#ما_تزعلوش