ظلت مصر البقره الحلوب للمستعمرين العرب. فى بدايات العصر العباسى تحسنت احوال الاقباط عما كانت عليه ايام الخلافة الاموية التي ارهق ولاتها أهل البلاد بالمظالم و الضرايب،
وكان سبب تحسن أحوال المصريين في بداية الخلافة العباسية أن الاقباط أيدوا ابو العباس السفاح ضد مروان بن مُحمّد بن مروان بن الحكم و ساعدوه حتي قضي عليه،
وعاهدهم السفاح أن يكون عادلا معهم فإرتاح الأقباط لفترة حتي عادت ريما لعادتها القديمه وبدأ اضطهاد الولاة العباسىين مما أدي لثورات الأقباط. توالى علي مصر في الفترة بين 172 حتي 177هـ سبعة ولاة آخرهم يدعى اسحق بن سليمان الذي بدأ ولايته بفرض زيادة في الخراج مما أصاب المصريين بالغضب فقام عليه أهل الحوف بالوجه البحري وحاربوه وقتل في هذه الواقعة خلق كثير. يظن الكثيرون أن المصريين شعب مستكين قانع بحياته لا يقاوم الظلم ولا يثور,
وهذا فهم خاطئ لطبيعة المصريين. كلنا نعلم أن الطبيعة الجغرافية للسكان تشكل الكثير من طبائعهم, والمصريون قد حبتهم الطبيعة بأرض زراعية سهلة الزراعة ونيل متدفق يبعث النماء والاستقرار فانعكس ذلك على سلوكهم الهادئ الوديع.
فهم شعب مسالم طيب ودود صبور جدا ولكنه حين يتعرض للظلم يثور ثورة عارمة وينطبق عليه القول” يكفيك شر ثورة الحليم إذا غضب”. في سنة 186هـ تولي علي مصرالليث بن الفضل (في خلافة هارون الرشيد) الذي أرسل مساحين ليعيدو مساحة الأراض الزراعية وأمرهم أن ينقصوا من القصبة بضع أصابع مما يزيد الضرائب عليها، فتظلّم أهل الحوف إليه فلم يستجب لهم فتجمهروا عربا وأقباطا وساروا إلي الفسطاط فخرج إليهم الليث بعسكره وبادرهم بالقتال فهزموه، بعدها جمع المزيد من العسكر وهجم عليهم فهزمهم واقتفي أثرهم حتي وصلوا لمنطقة تسمي عيفة وقتل منهم خلق كثير وقبض علي ثمانين من زعمائهم وقطع رؤوسهم وعاد بها إلي الفسطاط وعرضها علي الناس،
فتسبب ذلك في المزيد من الفتنة وامتداد الثورة إلي أغلب جهات الوحه البحرى، واستمر الحال علي هذا المنوال حتي تولي الخلافة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد في 198هـ (813م). في أيامه اتحد جميع أهل مصر من أقباط وعرب وامتنعوا عن دفع الجزية فكان بينهم وبين عسكر الولاة حروب هائلة قتل فيها من الفريقين خلق كثبر.
اقتدى أهل الصعيد بأهل الوجه البحري وأصبحت جميع بلاد مصر في حالة فوضي عارمة. ولما بلغ المأمون ذلك الحال من تمرد أهل مصر واجتماع كلمتهم علي المخالفة ومعاداة الحكومة، جزع وخاف أن يفقد أكبر ولاياته وكان مشغولا بمحاربة الروم،
فبعث لأهل البلاد الرسائل يدعوهم فيها إلي الطاعة فلم يجد ذلك نفعا. وعندما انتهي من حرب الروم وقصد العودة إلي بغداد (دار الخلافة) عرج على مصر فوجدها في حالة يرثي لها من الفوضى والاضطراب والناس في ضنك شديد،
فسخط علي واليه عيسى بن منصور وقال له: “لم يكن هذا الحدث العظيم إلا من سوء فعلك وفعل عمّالك، حمّلتم الناس ما لا يطيقون،
وكتمتم الخبر عني حتى تفاقم الأمر واشتدّ البلاء واضطربت البلاد”، وأمر بتجريده من ملابسه فنُزعت عنه وأخذه بملابسه الداخلية علي مرأى الجميع جزاء له وعبرة لغيره. يقول ساويرس بن المقفع مبررا لثورة القبط: عامل الولاة العباسيون القبط علي الاخص في خلافة المأمون وواليه علي مصر عيسى بن منصور بمنتهي القسوة، فقد ربط عسكر الوالي الثائرين بسلاسل الي المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب،
فاضطر الأقباط ان يبيعوا اولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا مما يحيقهم من عذاب. وعندما اقتنعوا نهائيا ان هذا الظلم لا يحده إلا الموت، اتفقوا على اعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية. يقول مؤرخو المسلمين أن المأمون حبن قدم إلي مصر ورأى انتفاضة أقباط الوجه البحري حكم بقتل رجالهم وبيع نسائهم وسبي أطفالهم، أما مؤرخو القبط يقولون أن المأمون حين أتى مصر ذهب إليه البطريرك الأب يوساب، فقابله الخليفة بما يليق بمقامه وأكرم وفادته، وكلمه في أمر مخالفة أقباط الوجه البحري وطلب منه أن ينصحهم ويحذرهم،
بأن يكتب لهم منشورا يدعوهم فيه إلي الطاعة وحقن الدماء، ووعدهم أن ينظر الخليفة بنفسه في أمر راحتهم مما يشكون، فلبى البطريرك طلبه وكتب المنشور وأرسله للناس فأطاعوا وسلّموا إلا أهل البشمور الذين لم يقبلوا النصيحة وأبوا إلا المقاومة.
وحين علم المأمون بالخبر حمل عليهم بعساكره، وبعد كر وفر استطاع بالخديعة دخول بلادهم وشتت شملهم وفرق جمعهم وقتل الكثير من رجالهم وسبى نسائهم وأطفالهم وسلب أموالهم وهدم كنائسهم ولم يبرح حتي خرّب بيوتهم وجعل بلادهم العامرة أطلالا. وتلك كانت اخر ثورات الأقباط الكبرى الذين انهكهم الاضطهاد و التعسف و بعدها بدأت اعدادهم في النقصان بعد ما دخل الاسلام الكثيرين منهم اتقاءا للحيف والاضطهاد. ومكث المأمون بمصر حوالي شهرين، ومن أعماله في مصر خلال تلك المدة إضافة لاعتقاله وقتل أعداد رهيبة من الأقباط وسبي نساءهم وأطفالهم أنه حاول هدم الهرم الأكبر بحثا عن الذهب وكنوز مصر التي ظن أنها مودعة داخله، لكنه فشل إلا في نقب فتحة به.