د.ماجد عزت إسرائيل
لقد مرت الإدارة المالية في عهد محمد على وخلفائه بعدة تطورات نحو إنشاء دولة حديثة منظمة وفقًا للنظم المالية والإدارية التي عرفها الغرب الأوروبي، فعملوا على إدخال تطورات تحقيقًا للهيمنة على الشئون المالية، وقد تبع هذه التطورات ظهور وظائف مستحدثه لم تكن معروفة من قبل،وقد وضعت حكومة محمد على باشا شروطاً فيمن يعمل بالوظائف الكتابية عند تعيينه، منها إجادة القراءة والكتابة وأعمال الحساب، والإلمام بأصول مسك الدفاتر، ومعرفة اللغة التركية وحسن السير والسلوك وتقديم ضمانة قوية، لذلك كان المباشر قبطيًا في الغالب.كما استعانت الإدارة المالية بعددٍ من الكتاب الأقباط المصريين والشوام لتولي الوظائف الكتابية بالأقلام مثل كاتب القلم التركي والعربي والعرائض اليومية والاستحقاقات والحسابات والعهد والجرنالات، ويأتي على رأس هؤلاء الكتبة باشكاتب مهمته مراجعة وجرد الحسابات وتنظيمها، ولقب باسم “الخواجة” أو “المعلم” لما له من خبرة ودراية بالشئون المالية.وكان من بين هؤلاء رائد الإدارة المالية المعلم غالى ابن المعلم سرجيوس أبن المعلم فلتاؤس من وجها أقباط مديرية قنا، وقد ولد في فرشوط، عام( 1775). لما شب غالي التحق بخدمة محمد بك الألفي، والي فرشوط، وفي هذا الوقت تعرف بمحمد علي، الذي كان قد قدم إلى مصر على رأس فرقة من الجند لمحاربة الفرنسيين، وكان الألفي يدفع رواتب محمد علي وجنده، فتوطدت الصداقة بينه وبين المعلم غالي. تزوج المعلم غالي من المدعوة “كتورة” أو “كاترينا”، وهي من أسرة الزير الشهيرة بأخميم، وهذه الأسرة ورد ذكرها كثيراً بسجلات الآباء الفرنسيسكان آنذاك، وقد أنجب منها ثلاثة أبناء هم باسيليوس ودوس وطوبيا، وبقي غالي كاتب في خدمة محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك الذي توفي في سنة 1807، ثم استدعاه محمد علي باشا والي مصر عام( 1223هـــ /1808م”،وأسند إليه الباشا منصبًا كبيرًا بعد غضبه على المعلم جرجس الجوهري، الذي ورث منصب أخيه المعلم إبراهيم المتنيح عام 1795م ،وكان المعلم غالي يسهل لمحمد علي أمر تحصيل الضرائب، ويقول الجبرتي في هذا”ظهر المعلم غالي وتداخل مع الباشا وفتح له الأبواب لأخذ الأموال وجرجس يدافع في ذلك. وإذا طلب الباشا طلباً واسعاً من المعلم جرجس كان يقول له: هذا لا يتيسر تحصيله، فيأتي المعلم غالي فيسهل له الأمور ويفتح له أبواب التحصيل”ولكن هذا الأمر انقلب وبالًا عليه في النهاية.
فكان جشع محمد علي في تحصيل الضرائب لا يقف عند حد، فقد طلب محمد على باشا من المعلم غالي ألف كيسًا، فقسم جمعها على المباشرين والكتبة وجمعها في أقرب وقت. وكان جمعها بسرعة موجبًا لغير ما كان يتوقعه المعلم غالي، وسببًا في جلب الغدر عليه وعلى غيره، فإن الباشا بعد قليل أمر بمحاصرة بيته، وبيت المعلم جرجس الطويل، وأخيه حنا، وفرنسيس أخي المعلم غالي، والمعلم فلتاؤس، واثنين آخرين وأخرجوهم من منازلهم بصورة منكرة وسمّروا دورهم، وأخذوا دفاترهم وحبسوهم، وبعد أيام أفرج عنهم على شرط أن يدفعوا سبعة آلاف كيس فقاموا بدفعها.ولم تمضِ سبعة شهور حتى قبض عليهم ثانية وحبسهم في القلعة وختموا على دورهم، ثم عفا عنهم وأعاد المعلم غالي إلى منصبه، على شرط أن يدفعوا أربعة وعشرين ألف كيسًا. وتكرر حدوث ذلك من محمد علي، فكان يغضب عليه تارة ويعزله من منصبه ويرميه في السجن ويضربه مئات الكرابيج، ثم يعيده إلى منصبه بعد دفع مبلغٍ طائلٍ.عندما أراد محمد علي تغيير هيئة الدواوين واستبدالها بغيرها، لتكون أقدر منها وتفوقها في النظام، حتى تعود بالفائدة على الخزينة، لم يتردد في الإفراج عن المعلم غالي والاستفادة من خبرته وكفاءته، مادام هذا يعود بالفائدة على الخزينة. وبعدما كلّف المعلم غالي بذلك، قسم المعلم غالي البلاد إلى مديريات وأقسام، والأطيان إلى أحواض، وابتكر أشياء كثيرة وحسابات تحقق مقدارًا وافرًا من المال، ولذلك يُنسَب للمعلم غالي تأسيس مصلحة المساحة، كما كان له دوره في تشجيع صناعة الأسلحة محليًا. ومن أعماله الجليلة أيضًا اقتراحه على محمد علي حفر قناة بين بحر الروم وبحر العرب ولكنه لم ينفذ. ونتيجة لنجاحه الكبير قابله محمد علي بالرضا وأثنى عليه ومن ثمَّ اتخذه كاتمًا لسره وخصّه مباشرة الأعمال الحسابية التي ابتكرها، فكانت يده فوق يد الجميع حتى حكام الأقاليم،استمر المعلم غالي في هذا المنصب حتى مايو عام 1822 م.، حين أطلق إبراهيم باشا رصاص مسدسه عليه في مدينة زفتى، أمام ابنه طوبيا فخرّ صريعًا،وهكذا ألقى المعلم غالي جزاء أمانته ووطنيته وخدمته، بعد أن أدى أجلّ الخدمات لمحمد علي ولإبراهيم باشا قاتله. وقد بقيت جثته ملقاة مدة يومين لا يجرؤ أحد على القيام بدفنها حتى استأذن رزق أغا حاكم الشرقية في دفنها، فأقيمت الصلاة على المعلم غالي بكنيسة أبي سيفين بزفتى ثم دفن بجوارها. ومن غير المعروف السبب الحقيقي لقتله، ولعل السبب هو مقاومة المعلم غالي لجشع إبراهيم باشا، لرغبته في تحصيل ضرائب على النخيل، بينما رفض المعلم غالي ذلك رفقًا بالمصريين لعدم إرهاقهم بتعدد الضرائب. ولكن إبراهيم باشا أصر على فرض الضرائب، فطلب المعلم غالي أن يعرض الأمر على محمد علي، فما كان من إبراهيم باشا إلا أن أجابه بإطلاق رصاص مسدسه عليه فخرّ صريعًا.ويذكر التاريخ أن محمد علي استدعى باسيليوس نجل المعلم غالي وقال له: “هل أنت حزين لموت أبيك؟” فأجابه باسيليوس: “لم يمت أبي مادام مولاي الأمير حيًا”. فأُعجِب به محمد علي وأسند إليه وظيفة رئيس المحاسبة في الحكومة المصرية وأنعم عليه برتبة “بك”، وهو أول من مُنِح هذه الرتبة من الأقباط
الوسومد.ماجد عزت إسرائيل
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …