بقلم :عبداللطيف مشرف- باحث وأكاديمى مصرى
إذا كانت الديمقراطية هي رقابة الشعب على الحكومة فكيف يمارس الشعب هذه الرقابة؟ كيف مارسها في النظام الديمقراطي الأثيني وهو أول تجربة ديمقراطية في التاريخ؟ لقد أُعطي الشعب الأثيني حق الرقابة على الحكومة بعد لأيٍ ولفترة وجيزة ثم اختفت.
تدل آداب أثينا على أن شعبها أولِع بالحرية وغفِل عن مقومات بقائها وأهم مقوماتها هو وجود شعور عام يقي الحياة العامة ضراوة المنازعات الفئوية والمصلحية.
في الحقيقة لم يكن كبار فلاسفة أثينا مؤمنين بالديمقراطية، بل كانوا معارضين لها، وكان سقراط المفكر الوحيد الذي حبّذ الديمقراطية، وكان الشعب في سُبات عميق عن أبطال ديمقراطيته مثل أروبيدس الذي طُرد من المدينة، وأُعدم سقراط، وظلت الديمقراطية شكلا.
كان لتدخل القوى الخارجية أثره في منع استمرار ديمقراطية أثينا، لكن افقتار اليونان إلى الروح القومية هو الذي شجع على التدخل الأجنبي، فالديمقراطية لا ترسخ في النفوس إلا إذا ارتبطت بشعور قومي أو بوعي الشعب لوحدته، ظلت كل مدينة في اليونان تفاخر المدن الأخرى بإنجازاتها وثقافتها، تلك الانجازات التي كانت وقفًا فقط على من أتيحت لهم الفرصة أو المكانة أو الثروة أو التربية، ولم ينظروا اليونانيون لهذه الإنجازات نظرة عامة باعتبارها منجز لهم جميعا، بل نظروا لها نظرة فئوية فردية، والثقافة تقر هذه الدرجات والتمايز، ولكن القومية لا تقرها، فالصغار والكبار متساوون في القومية، ولذلك فالقومية توحد الشعب توحيدا لا تقدر عليه الثقافة مهما اتسعت.
مارس شعب أثينا الديمقراطية بشكل حصري ولكن بشكل كامل، وبلغت الديمقراطية مبلغا عظيما عندهم لدرجة كانوا يختارون القضاة ويعزلونهم وأصبح بوسع كل ناخب أن يكون بالتناوب أو الاختيار حاكما أو قاضيا، ولكنهم كانوا الأقلية في الدولة وكان أكثر سكانها غارقين في أميتهم وظل من العسير على المقيمين خارج المدينة أن يتركوا أرضهم وينتقلوا للمدينة لممارسة حقهم الديمقراطي، وظل العبيد في حالة حرمان تام من أي حق، و كانت حياة النساء أشبه شيء بعزلة نساء الشرق في الحريم فكانت الديمقراطية هناك بلا قاعدة شعبية.
تعرضت التجربة الرومانية لذات الصعوبات التي تعرضت لها التجربة اليونانية، وكان للعبودية في التجربة الرومانية أثرها الحاسم في إخفاقها، إذ العبودية والديمقراطية لا تتفقان، لأن الديمقراطية تكرس حقوق الشخص مهما كانت منزلته، والعبودية قائمة على رفض كلي للاقرار بحقوق الشخص المدنية.
لقد سلّـم كبار مفكري اليونان بنظام العبودية واعتبروا وجودها متفقا مع طبيعة الأشياء وأنهم أشبه بالآلة، وظل هذا موقفهم إلى أن سرَت روح الديمقراطية في فكرهم أواخر أيام روما، فأنكر شيشرون تفاوت الشعوب، وشدد الرواقيون على وجود العقل العام في جميع البشر، وميز الفقهاء الرومان بين التفاوت في الحقوق المدنية والتساوي في الحقوق الطبيعية، فاعتُبرت هذه الآراء هي القواعد الفكرية لنشوء الديمقراطية.
أكثر ما ظهرت الديمقراطية في المدن، وأوضح صورة لانحصار الديمقراطية في المدن كانت صورة روما في أواخر عهد الجمهورية الرومانية، فمع كونها خلعت مواطنيّتَها على جميع سكان المملكة إلا أن ممارسة حقوق المواطنة ظل حكرا على من ينتسب من المواطنين لمدينة روما.
الوسومعبد اللطيف مشرف
شاهد أيضاً
المحاكمات (التأديبات) الكنسية … منظور ارثوذكسى
كمال زاخرالخميس 19 ديسمبر 2024 البيان الذى القاه ابينا الأسقف الأنبا ميخائيل اسقف حلوان بشأن …