دكتور / صلاح عبد السميع
فى عام 2003 واثناء تولى الدكتور مفيد شهاب وزارة التعليم العالى صدر قرار الغاء كليات التربية ضمن مؤتمر تطوير التعليم العالى بناءا على توصية من البنك الدولى ، وظهرت ردود افعال كبيرة من قبل أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية وعلى رأسها العاملين فى حقل كليات التربية برفض هذا المقترح ، وعلى أثر الاعتراض تم تجاهل التوصية وبقيت كليات التربية .
منذ ذلك الوقت وحتى الان يتم التلويح بضرورة تحويل كليات التربية الى أكاديميات يقتصر دورها على منح دبلوم التربية عقب حصول الخريج على الشهادة الجامعية ، كما ينوه من يدفع نحو الغاء كليات التربية بأن دورها قد انتهى وتسببت فى سوء حالة التعليم ، وأن الغاء أمر التكليف لخريجى كليات التربية منذ عام 1998 ساهم فى تدنى مستويات الخريجين ، ولا يتم الاستفادة منهم وبالتالى أصبحت كليات التربية تصدر مزيدا من العاطلين ، ومن هنا وعلى حد قولهم وجب الغاء تلك الكليات ، ولقد تبنى هذا الاقتراح وزير التعليم الأسبق دكتور هانى هلال فى حكومة أحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق، ولهذا وعبر حكومات متعددة فى ظل حكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك ، تم التصريح والاعلان عن رغبة الحكومة الغاء كليات التربية ، ولولا ردود الأفعال الغاضبة من قبل أعضاء هيئة التدريس مما دفع بوزراء التعليم تحت ضغط الرأى العام ومنعا لإثارة المجتمع التخلى مؤقتا عن الفكرة ، بينما بقيت ضمن مخطط البنك الدولى يلوح بها فى كل وقت وكلما وجد الفرصة مناسبة للدفع بمشروع القانون ووجد من يتبنى ذلك الاتجاه من داخل لجان قطاع التعليم ومن داخل البرلمان أحيانا أخرى .
وفى الأمس القريب كانت توصيات البنك الدولى هى المؤشر المعلن نحو مشروع الغاء كليات التربية ، واليوم يأتى مقترح تطوير كليات التربية المقدم من معهد الشرق الأوسط للتعليم التابع للجامعة الأمريكية والذى قدمته لجنة قطاع الدراسات التربوية ، حيث اقترح المعهد تحويل الكليات الي مكاتب لإعداد المعلم وتحويل مجهود التطوير بها لكليات الآداب والعلوم على أن يدرس خريج هذه الكليات الجزء التربوي داخل “مكاتب التربية”. وجاء نص المقترح كالأتي: “إسناد الجزء الأكبر في تطوير المعلم التربوي الي كليات العلوم والآداب وتترك نسبة 10% فقط للتربية على أن يتوقف القيد بها لمرحلة البكالوريوس”.
وعليه نريد أن نناقش بموضوعية وحياد تام أبعاد هذا المقترح والى اى مدى يساهم فى تطوير كليات التربية ، ولماذا تم اعلان المقترح عبر مركز الشرق الأوسط بشكل خاص ، وما البدائل والحلول المقترحة لتطوير حقيقى للتعليم العام وللتعليم الجامعى ومنها كليات التربية التى بصلاحها يصلح المجتمع وبغيابها يضيع المجتمع وتسود الفوضى فى كافة مؤسساته ، لأنه اذا غاب من يربى تربية حقيقية ، انعكس ذلك سلبا على المتعلمين فى كافة مراحل التعليم ، لهذا وجب على المجتمع بأسره ان يناقش القضية ، ولا يجب اختزالها عند المتخصصين فى التربية فقط ، بل يجب ان تكون قضية رأى عام يتم مناقشتها بهدوء وبرعاية كاملة من متخذ القرار السياسي والتعليمى .
تعليقات وتساؤلات مشروعة عبر عنها أعضاء هيئة التدريس بكليات التربية بشأن بنود مشروع التطوير المقدم من مركز الشرق الأوسط التابع للجامعة الأمريكية؟
• أشار النموذج الاسترشادى الى الغاء النظام التكاملى بالصورة المتعارف عليها والتأكيد على النظام التتابعى بصورة غير مباشرة حيث دراسة التخصص الأكاديمى أولًا لمدة سنتين “الفرقة الأولى والثانية” ثم التخصص التربوى فى الفرقة الثالثة والرابعة بعد اجتيازه لمجموعة من اختبارات القبول فإذا فشل الطالب المعلم فى هذه الاختبارات يستمر فى كليته “العلوم أو الآداب” والسؤال هل ما يدرسه الطالب المعلم فى كلية الآداب أو العلوم فى الفرقة الأولى والثانية يتسق مع ما يعد له، ومع رؤية ورسالة كليات التربية؟
• ذكر النموذج الاسترشادى أن من أدوار الكليات المتخصصة تحديد متطلبات الجامعة وتوفيرها من خلال كلياتها المتخصصة والسؤال كيف لكليات غير مؤهلة تربوياَ أن تحدد ماهو مطلوب من كليات التربية المؤهله لهذا الدور مع اختلاف كل كلية فى فلسفتها ومتطلباتها ومعايير خريجيها أم أن الرؤية أن أساتذة كليات التربية غير مؤهلين لذلك فليس لديهم الخبرات والمهارت والقدرات للقيام بهذه المهمة؟
• بالنسبه للتربية العملية 10%” يقوم بالإشراف عليها المكتب المفترح “مكتب إعداد المعلم بالجامعة” بالرغم من أن هذا مخالف لقانون تنظيم الجامعات، بل أضاف المقترح الاستعانة بعدد من المسئوليين فى وزارة التربية والتعليم ليشرفوا على التربية العملية أى أن كليات التربية عاجزة تمامًا عن القيام بهذه المهمه، فهل هذا تطوير أو تبوير وإلغاء لكليات التربية تدريجيًا؟
• أن تحول كليات التربية إلى “مكاتب” لإعداد المعلمين يعد أمرًا غير مقبول ولا يتفق مع اللوائح والقوانين وتهميش لدور أساتذة التربية بل فى الحقيقه إلغاء لكليات التربيه ودور العمداء، والسؤال لماذا لا يكون لكل قطاع من قطاعات الجامعه “الطب – الهندسة – العلوم الاجتماعية. وهكذا” مثل هذا المكاتب.
• عنوان النموذج الاسترشادى المقترح “إعداد معلم مفكر – مهنى – ممارس – باحث”، عنوان مبهج ورائع إلا أن مكونات النموذج المقترح لا تعكسه.
• هل تم مناقشة الهيكل المقترح مع لجان قطاع العلوم والآداب؟
كل ماسبق ذكره من تساؤلات تستوجب النقاش وتحتاج الى ردود مقنعة من أهل التخصص ، وبعيداً عن الانفعال الذى لايثمر الا ثرثرة لن نصل من خلالها الى حلول حقيقية لمشكلة تم اثارتها وتستحق النقاش الجمعى والاتفاق على راى جماعى باعتبارها قضية وطن ومصير مجتمع .
أود ان اشير الى ان الحكم على واقع التعليم فى مصر ومدى تدهور الحالة التعليمية بالمدارس وبالجامعات ، لا تتحمله كليات التربية ، ان غياب المنظومة التعليمية وعدم تطبيق المعايير الواجب تطبيقها عند الاختيار وعند التنسيق ، وغياب التواصل بين وزارة التربية والتعليم وبين المجلس الأعلى للجامعات بشان حاجة المدارس الى أعداد معينة من الخريجين ، اضافة الى الغاء التكليف للمعلمين من خريجى كليات التربية ، ولجوء المدارس الى التعاقد مع غير المؤهلين تربويا ، دفع الى حالة الفوضى فى منظومة التعليم ، أضف الى ذلك الشعور المسبق لكل من يلتحق بكليات التربية بانه سوف يكون ضمن طابور البطالة المقنعة ، أدى ذلك الى انطفاء الدافعية لدى المجموع العام من الطلاب المعلمين ، مما أثر سلبا على مستوياتهم الأكاديمية والتربية .
عند الحكم على كليات التربية علينا أن ننظر الى حالة المجتمع ككل ، ومن تقتصر نظرته على قراءة الجزء دون الاطلاع على الرؤية العامة لواقع المجتمع عليه أن يعيد النظر فى أحكامه ، ولهذا من المهم ان يبقى ملف التعليم مفتوح ، تعليم تنازلت الوزارة عن ممارسة دورها الرقابى المبنى على المحاسبية ، ومدارس غابت تماما عن أداء دورها التربوى والتعليمى وبقيت على جدرانها شعارات تحمل عناوين لرؤية ورسالة المدرسة ، فلا رؤية ولا رسالة على أرض الواقع .
من المهم ان يتم التواصل بين التعليم العالى وبين وزارة التربية والتعليم من أجل التنسيق بشان اعداد من يتم قبولهم فى كليات التربية ، من المهم ان يعود نظام التكليف المبنى على معايير اختيار حقيقية تتمثل فى مواصفات نفسية وعقلية وصحية لكل من يلتحق بالدراسة ضمن كليات التربية ، ومن الأهم ان يتم تفعيل البحث العلمى لرصد الواقع التربوى والتعليمى وفق احصاءات حقيقية يتم تفعيلها ضمن محاولات التطوير التى يجب أن تكون مستمره وهادفة وتخدم الخطة الاستراتيجية للوزارة ، والتى لا تتغير بتغير الوزير أو الحكومة . فى امريكا واوربا يتم التركيز على اعداد المعلم بشكل عام ومعلم الروضة والمرحلة الابتدائية بشكل خاص نظراً لأنه يتحمل أمانة تربية وتعليم جيل المستقبل ، ولهذا لا تبخل تلك الدول بالانفاق على التعليم ضمن الموازنة العامة لها .
هذا وقد اطلعت بنفسي على نظام اعداد المعلم فى الدول الاسكندنافية وبشكل خاص فى السويد ، حيث تتاح فرصة التدريب الميدانى للطلاب من خلال اختيار المدرسة التى سوف يتدرب فيها ،فإن اجاد وابدع ونال تقدير ادارة المدرسة اتفقوا معه على أن يعمل معهم عقب حصولة على الرخصة والانتهاء من الدراسة ، بل انه يحصل على مكافاة مالية نظير اشتراكة فى التدريس من خلال التدريب الميدانى .
ومن هنا وعبر قراءة واقع التدريب الميدانى فى مدارسنا نرى غياب المتابعة الميدانية وغياب الاشراف من داخل المدارس نتيجة عدم توفير الموازنات المالية التى تكفل مكافاة الاشراف على مستوى معلم المادة وعلى مستوى ادارة المدرسة ، نعم انها مشكلات كثيرة تتعلق بالمنظومة ، ولا يجب على الاطلاق تحميل كليات التربية المسئولية عن كل الكوارث التى لحقت بالمجتمع ، حيث تدنى منظومة القيم وغياب الممارسات الأخلاقية ، وارتفاع الأصوات فى الأماكن العامة ،و تدنى المستوى الثقافى للطلاب بشكل عام ومنهم طلاب كلية التربية ، أضف الى ما سبق الخطاب الاعلامى المهمش للتربية ، والذى يدعم الترويج عبر دراما لا تعالج قضاياه ، وانتشار الأغانى الهابطة التى لا تربى الانتماء ولا تعلى من شأن القيم ، المشكلة اذا ليست مشكلة كليات التربية ، انها مشكلة مجتمع يأبى أن يهتم بقضاياه المصيرية ، بينما يهتم بمباريات كرة القدم ، يأبى أن يساهم فى انشاء مؤسسة تعليمية وتربوية بينما يساهم فى حفلات ” الفتو داى ” أو “الفن داى ” ، ينفق على للدروس الخصوصية بينما يرفض دفع الرسوم الدراسية ، مجتمع غلب عليه ثقافة التقليد الأعمى متناسيا تراثه وقيمه ، مجتمع تعليمى غاب عنه القدوة فى المنزل والمدرسة ، مجتمع
انشغل بجلد الذات دون ان يهتم بالبناء والتطوير على مستوى الفردى والجمعى .
كل مسبق يمثل جزء من المشهد العام ، وفى المقابل مازال هناك من يسعى الى التطوير الحقيقى ، وهناك امكانات كبيرة فى الوطن على المستوى البشرى والمادى يمكن توظيفها اذا خلصت النوايا وصدقت ، واذا تحركت الارادة الوطنية بعيدا عن املاء الخارج أو تبعية الداخل .
نريد أن نبنى مجتمع المعرفة والقيم ، نريد أن نبنى مجتمع الفكر لا مجتمع الخرافات ، نريد أن نربى الانتماء وليس التبعية والانخراط والتقليد الأعمى ، نريد أن يتم اعداد المعلم فى بيئة أسرية تحتضنه وتعلمه ، ثم مدرسة ترعاه وتربى لديه ملكات الفهم والوعى والتفكير ، ثم جامعه تؤصل لديه معنى المواطنة والانتماء وتدفعه الى ممارسة سلوكيات اكاديمية ومهنية وثقافية تؤهله لسوق العمل فى مجال التخصص ، كل هذا لن يتم الا عبر بيئة حاضنة ومجتمع متفهم واعلام هادف مؤسسات تعليمية وسياسية فاعلة وهادفة ، تعلن عن رؤيتها بوضوح وتسعى الى تحقيقها عبر رسالة وخطة معلنة تتضافر فيها الجهود ، ويجتمع على تنفيذها العقل الجمعى الوطنى ، ويستفاد بالخبرات العالمية فى توظيفها بما يتفق مع طبيعة المجتمع وامكاناته
لا نريد ان نبقى دائما ردة فعل لما يقوله الآخر ، نريد أن نكون نحن الفعل ، نؤسس لخطة واضحة ومعلنة ، تتبناها المؤسسة السياسية وترعاها المؤسسة التعليمية والتربوية ، ويحتضنها الرأى العام ، ويستفاد من كافة الخبرات دون اقصاء أو تهميش ، هذا ما يريده المجتمع وتريده كليات التربية وللحديث بقية .