ما أقسى ذاك الخبر حين يأتينا فتتمزق نفوسنا وتنكسر قلوبنا حين يقع على مسامعنا خبر موت أقرباءنا وأحباءنا ويخيّل لنا أنّ الحياة قد انتهت، وأنّ ذلك العزيز حين رحل أغلق أبواب الحياة خلفه، وفتح لنا منافذ الألم والآنين وخاصة إذا كان المنتقل شاباً أو صحيحاً فيمر الإنسان بلحظات مريرة يظن فيها أنه فقد طعم الحياة ومعناها وتمر الدقائق كأنها الدهر كله. وتختلف ردود الأفعال من شخص لآخر حين يجوز هذه التجربة فهناك من يفقد إيمانه وهناك من يفقد رجاءه وهناك من يغضب من الله أو يعاتبه بشدة أو يخاصم الله فيتوقف عن الصلاة والعبادة وتبدأ رحلة قاسية تمتد عند البعض لسنوات يصاب فيها بجرح نفسي غائر قد يصعب شفاءه.
في أيامنا هذه كثرت حالات اختطاف الموت لشباب صغير حملناهم حين تصورنا أن سيحملوننا، أمرٌ صعب الاحتمال ومُر على النفس لاسيما على الأب والأم المكلومان.
هذه الصورة القاتمة في سلبيتها المحبطة أراها وكأنها نيجاتف لفيلم أو عفريتة صورة – كما يسميها المصورون – لا تعبر عن حقيقة الصورة المضيئة المخفية وراء مظاهر الموت والتي لا نراها.
أتذكر حينما خطف الموت والدتي وهي في كامل صحتها بحادث سيارة بشع وبدأ يتسرب الحزن إلى داخلي تكلمت مع خالي المتنيح الأب لوقا المقاري وهو راهب وقورٌ تقي كان زاهدا ملتزما أسماه الأب متى المسكين الراهب الجوهرة حيث كان مترفعا عن كل مباهج الحياة فلم يلتقِ من يوم رهبنته أمه أو أخوته ولم يحضر جنازتها أو جنازة والدتي لأنه مات بالفعل عن العالم وحين ماتت أمي في هذا الحادث الأليم ولأنه لم يكن يتصل بنا، اتصلت بالدير وكلمته وقلت له لقد ماتت أمي –أخته- فقال لي اخرستوس آنستي ورددها على مسمعي و يا للعجب وكأن هناك قوة عجيبة خرجت من كلمة بشارة القيامة ولولا أنه اختبارٌ شخصيٌ ما صدقته تحولتُ معها من مكلوم حزين يلتمس عزاءاً لمعزي يشدد الحزانى من إخوتي وأقربائي حتى تعجب الجميع لمعرفتهم بتعلقي الشديد بأمي.
وحينا زارنا المتنيح القديس الأب كيرلس المقاري ليعزينا وقبل أن يجلس رغم إرهاق صعود السلم المرتفع وكان في أواخر عمره، طلب من كل واحد منا أن يقول أشكرك يا رب يسوع وأصر أن يسمعها من كل شخص موجود في العزاء وقال بصوت جهوري أن هناك إكليل مجهّز في السماء لمن يشكر وقت التجربة القاسية التي من غير المنطقي الشكر فيها.
منذ شهور قليلة فقد أحد أحباءنا وزوجته ابنهما الشاب الذي لم يكمل عقده الثاني بلا أي أمراض أو حوادث فقد كان رياضيا وخادما محباً للجميع، كان الخبر صادما للجميع. الزوجة مصرية والزوج أمريكي عاشق لكنيستنا القبطية يهتم بخلاص أولاده حتى أنه حفظ مردات الشماس ليقف بجانبهم اثناء القداس وهم شمامسة ما فعله هذان الوالدان لهو أمر عجيب فقد أخبرانا أنهما صرخا لله قائلين لا نعترض على استردادك عطيتك ولكن لنا طلب واحيد وهو أن تعلن لنا بكل وضوح أين وضعت أبننا وبالفعل استجاب الرب لهما واراهم ابنهم في رؤيا سمائية وتحولا من مكلومان لا تجف دموعهما لكارزين بملكوت الله واتخذوا من قدوم الناس لتعزيهم للكرازة بالقيامة لذا تجد كل من زارهم تعزى وأخبر بكم صنع معهم الرب من مجد إلى مجد.
كان يسوع يعرف قسوة الموت وشوكته على الإنسان وإذ تألم مجرَباً يستطيع أن يعين المجربين لذا أباء الكنيسة حين تأملوا آلام الرب يسوع قالوا أنه كان يتألم من أجل كل العالم لا الأحياء فقط بل من أجل الأموات أيضاً الذين قبض عليهم الموت قبل صلبه ووضعهم في الجحيم حتى أنه ومن أجل محبته للبشر ومراحمه الكيرة ، حين انفصل جسده عن نفسه – دون أن ينفصل الجسد عن اللاهوت – نزل إلى الجحيم ليبشر الموتى بانتهاء شوكة الموت، لذا أنك تجد الكنيسة تبدأ في الاحتفال بالقيامة من يوم سبت النور بل من بعد دفن المسيح في الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة حيث بشر الرب الموتى – كما أسلفنا – بالحياة ولم يعد للموت سلطاناً علينا وأصبح الموت هو مجرد انتقال من حالة المادة إلى حالة الروح.
نعم هذا رجاءنا يا أخوتي سنلتقي بهم حتماً مع من سبقونا وسنعيش معهم حياة أبدية خالدة ملئوها الفرح والراحة فهم عبروا قناة الموت ونحن خلفهم.
يقف بولس الرسول أمام الحزانى الذين فقدوا رجاءهم حين فقداوا أحباءهم ليعزيهم ويثبت إيمانهم قائلاً إن لم يكن قيامة للأموات فلا يكون المسيح قد قام وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيماننا
بالفعل والحق لم يعد للموت أي سلطان علينا يا أحبائي وهي حقيقي لا نخدر بها أنفسنا لأن يسوع حين أصبحنا جسده وصار هو رأسنا جزنا الموت معه وانتصرنا عليه وكسرنا شوكته فقد وطيء مسيحنا الموت ولم نعد نخشاه وإن أخذ منا أحبائنا فسنلقاهم حتماً وسنعيش معهم حياة أبدية ملؤها السعادة ولنقول مع الرسول أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا.
يقول لنا القديس أثناسيوس الرسولي، أننا لا نفنى بل نحن “نزرع” في الأرض ثم سنقوم ثانية لأن الموت قد ألغي بنعمة المخلص.
التحدي غير المنطقي الذي علينا أن نتحلى به هو الشكر والتسليم الكامل لإرادة الله عند موت أحباءنا والذي يزرعه ويثبته فينا الروح القدس الساكن فينا بمجرد إعلان شكرنا لله وقد نراه في بعض العائلات التي ترتدي الملابس البيضاء حينما تصعد أرواح ذوييها إلى السماء حيث قال لنا بولس الرسول :لا أريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة الراقدين، لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم. (1 تس 4: 13)
ويقول لنا القديس كيرلس عامود الدين أن المسيح قام مبيداً الموت ليخلصنا من عفن الموت ـ يقصد تحلل الجسد بعد الموت – وذلك بإلغاء حُزن الموت ليتحول إلى الهتاف المفرح ” لقد حولت نوحي وألبستني الفرح” (مز ٣٠: ١١).
أحباؤنا وأقرباؤنا لم يخطفهم الموت بل خطفتهم الحياة
حيث الفرح الأبدي حيث الحياة التي بلا ألم أو تعب أو مرض أو خوف أو دموع حيث حضن الرب يسوع ذاك أفضل جداً