الدكتور / صلاح عبد السميع عبد الرازق
غاب القدوة فى البيت والمدرسة وفى مؤسسات المجتمع ، فغابت ثقافة الاعتذار عن المجتمع .
نعم انه مشهد استوقفنى عند خروجى من المسجد ، أطفال فى عمر السادسة أحدهما يضرب الآخر ، تدخلت لأحول بينهما وسألت من يعتدى لماذا تعتدى عليه؟ الاجابة لأن هناك طفل صغير اعتدى على أثناء الصلاة ، فانتظرت حتى خرج من المسجد وضربته ، هنا تدخل هذا الطفل ليدافع عن الصغير فكان نصيبة الاعتداء ، نظرت الى عين من اعتدى قلت له هل ترضى عن تصرفك تجاه طفل اساء اليك دون علم ، لماذا تبادر بالاعتداء على زميلك الذى شعر بالظلم الذى اوقعته على طفل صغير ، فهل يليق أن تسلك هذا السلوك وقد خرجت من المسجد ، هل هذا ما امرك به الله ؟ استشعر الحرج ، طلبت منه أن يعتذر لزميله ، قال له أنا اسف وقبل رأسه ، فى نفس اللحظة بادر الطفل الآخر بالقول وانا أسف ، تعانقا وذهبا سويا .
انتهى المشهد وهنا شعرت بسعادة بالغة و قررت أن اكتب مقالى هذا بعنوان ثقافة الاعتذار ، نعم نحتاج الى أن نتعلمها بشدة صغارا وكباراً ، ما أسوأ أن يمارس الكبار ثقافة العند والكبرياء والاستبداد ، كلها نتاج لغياب ثقافة الاعتذار ، هناك من اساء لغيره وهناك من أساء لنفسه ، بل هناك من أساء الى مجتمع بالكامل وأمة بأسرها ، ورغم ذلك يعاند ويكابر ، السبب يعود الى التربية التى غابت وغيبت ، لأنه لم يمارس ثقافة الاعتذار ولم يتعلمها من الكبار ولم راها نموذجا يمارس .
فماذا نعنى بثقافة الاعتذار ؟ ولماذا نحتاج اليها ؟
اعتراف الانسان بالخطا وشجاعته بأن يعترف بذلك ويعود ادراجه ، معترفاً بالخطأ الذى مارسه ، ومعترفاً بالضرر الذى اوقعه بالطرف الآخر
ان ثقافة الاعتذار لا تمثل ضعفا فى شخصية من يقبل على الاعتذار ، بل هى منطق للقوة بكل معانيها ، وتعبير عن الثقة بالنفس ، والاعتراف بالحق فضيلة ، والاعتراف بالخطأ فضيلة كبرى .
ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»، وقد يتعلق الخطأ أو التجاوز بحق مخلوق وهذا أمر كثير الحدوث، ولا يستطيع إنسان أن يدعي العصمة من الخطأ سواء في حقوق الله أو حقوق العباد، والاعتذار للخالق عن التجاوز في أمر من أموره هو «التوبة الصادقة»، والاعتذار للبشر عن التجاوز في حقهم يعني إعادة الحقوق المادية إلى أصحابها أو طلب العفو عنها، والاعتذار عن الإساءات والتجاوزات الأخلاقية.
لو كانت ثقافة الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق فضيلة متأصلة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة لجنبناها على المستويين الفردي والأسري وعلى المستوى الدولي الكثير من المشكلات والأزمات، فكم من أشخاص دفعوا حياتهم ثمنا لعنادهم وإصرارهم على مواقف خاطئة، وكم من أسر دفعت أثماناً باهظة لتهور بعض أفرادها وإساءاتهم لآخرين من دون أن يبادر الحكماء والعقلاء إلى الاعتراف بالخطأ ثم الاعتذار.
إن العفو عن المسيء يحول الكاره إلى محب، والعدو إلى صديق، فكما أن للعفو أثره في نفس من يعفو حيث يعينه على التقوى، وعلى راحة الضمير، وسكينة النفس فإن له كذلك أثرا بالغا فيمن يعفو الإنسان عنه، حيث يستشعر خطأه، وإساءته، ويرى كيف قوبل خطؤه بالعفو والإحسان فيثوب إلى الرشد والصواب، وتنطفئ من داخله الكراهية وتذوب النزعة العدوانية ولا يملك إلا أن يكون مع أخيه كأنه ولي حميم، قال الله تعالى: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم». آية 34 سورة فصلت .
لقد آن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا التربوية والمنهجية التي علينا أن نعيد تشكيلها في أجيال المستقبل، فمن المهم ان تمارس تلك الثقافة داخل مؤسسات العبادة ، وكذلك بالمدارس لتكون شعاراً يرفعه الجميع ، مدراء المدارس وفريق العمل معهم من المعلمين عليهم أن يمارسوا تلك الثقافة امام التلاميذ ، أولياء الأمور عليهم أن يبادروا بالاعتذار للأبناء عندما تصدر منهم اساءات مقصودة تجاههم ، من المهم أن ترسخ تلك الثقافة لتكون سلوكاً يمارسه الجميع ، حكاما ومحكومين بلا استثناء ، ولعل وسائل الاعلام من الأدوات التى يجب توظيفها بشكل فعال لنشر تلك الثقافة من خلال الخطاب الاعلامى ، وعبر الدراما التى يتم عرضها والتى ينفق عليها مليارات دون اية فائدة تربوية ، لأنها تذهب دوما نحو مخاطبة الغريزة ، واثارة الفتنن والدعوة الى الطبقية ، وطرح ما يدعوا الى العنف اللفظى والعنف المادى ، لهذا وجب اعادة النظر فى كل ما يتم عرضه عبر وسائل الاعلام ، ان اردنا ان ننشر ثقافة الاعتذار بين ابناء المجتمع .
وأخيراً فإن الاعتذار وفنونه أحد أهم الأولويات التي يجب أن نوجدها في مجتمعاتنا فهو خُلُق وصفة عظيمة قد تحل الكثير من المشاكل، وتعيد الإنسان إلى إنسانيته التي سلخناه منها جراء أفكار الغلو والتشدد والهيبة المزعومة التي طغت على المجتمع فاستكبرعلى إنسانيتة ، وغلب على افرادة التسلط والاستبداد ، وفى المقابل افتقد التراحم وأدب الخطاب ، فغاب التسامح عندما غابت ثقافة الاعتذار .
الوسومصلاح عبد السميع عبد الرازق