بقلم: عبداللطيف مشرف
تتخلل القوة بشكل شامل صور الحياة الاجتماعية، فكل فعل اجتماعي وكل علاقة تنطوي على عنصر من عناصر القوة. بل البعض قد ذهب للقول أنه بدون القوة لا يمكن أن يتحقق التكامل أو أن يوجد المجتمع. وحتى إذا نظرنا إلى أنفسنا على أننا نمارس سلوكاً سياسياً فنحن إما أن نستخدم القوة، أو أن نكون هدفاً لها، فالقوة تمثل، إذن، أساساً ثابتاً للتفاعل الاجتماعي. وعلى الشامل، أي على نطاق مجتمعي.
ولقد اهتم المفكرون الاجتماعيون بدراسة القوة منذ وقت طويل، بل ظهر في القرن المنصرم ما أطلق عليهم “مدرسة دراسات القوة”، وقديماً حاول أفلاطون تحديد القوة بأن أدخل عليها الانسجام الفلسفي الفعلي، ذاهباً إلى أنه عند سيادة العقل فإن تسلط القوة سوف يزول.
كذلك دعا الرواقيون إلى سيادة القانون الطبيعي ليحدوا من قوة الحكام. أما الكتاب المسيحيون (القديس أو غسطين وغيره) فقد قرروا أن القوة والملكية والعبودية هي من قبيل عقاب الله للناس على خطاياهم. ورغم ذلك فهنالك من دافع عن التمسك بالقوة، وقد تميز هؤلاء بالابتعاد عن التصورات الميتافيزيقية، تلك التي نادت بإلغاء القوة، وقد ظهر جراء هذه الاختلافات ما يمكن أن نسميه نظريات القوة،
تؤيد إحداها القوة السياسية القائمة وتنتقد الأخرى القوة على إحداث تغيير فيها. ويأتي هذا التباين بطبيعة الحال، من اختلاف الظروف التي تسود المجتمعات من وقت لآخر. ونفهم من ذلك أن القوة تتغير مع التغيرات البنائية التي تشهدها المجتمعات في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
نحاول أن نحلل مفهوم القوة ونتسلسل به منذ الفكر اليوناني والروماني القديم، مروراً بعصر النهضة الأوروبية، وصولاً به للتحليلات الحديثة المعاصرة. فقد كانت العدالة المحور الذي دارت حوله أبحاث أفلاطون السياسية، وجوهر العدالة عنده هو الفضيلة، وهي عنده المعرفة والتي تحقق الخير الأسمى للدولة وافرادها على السواء. فالعدالة عند أفلاطون هي، إذن، أن يخضع الجميع إلى من بيدهم القوة في المجتمع، وعلى ضوء ذلك تعتبر آراء أفلاطون حول العدالة من الإشارات المبكرة إلى ما سمي بعد ذلك في تراث العلوم الاجتماعية بنظرية القوة. فالعدالة عند أفلاطون هي أن يخضع الناس إلى طبقة حاكمة، وهي الطبقة التي تمتلك القوة. كذلك اتخذ أرسطو موقفاً مشابهاً تجاه القوة، وذلك حينما أخذ التصنيف السداسي للحكومات الذي قال به أفلاطون.
فالفرضية ذات الأهمية الكبرى عند أرسطو هي أن مقدار القوة والنفوذ عند أعضاء النسق السياسي إنما يقوم على مقدار الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية التي يحتلونها.
أما في بلاد الرومان فقد كانت الإمبراطورية الرومانية منقسمة إلى عدة مقاطعات، يقوم على كل واحدة منها حاكم روماني له صلاحيات واسعة في الشؤون الإدارية. لذلك فقد أعطى فلاسفة الرومان (سيشرون وبولبيوس) القوة مفهوماً أكثر عمقاً، إذ أنها تمثل الأساس في تأكيد الحق والعدل وإقرارهما في الدولة. وقد ذهب سيشرون إلى أن أفضل دستور للدولة هو الذي يجمع في توازن الأشكال الثلاثة للحكومات وهي؛ الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. ولكن رغم ذلك فقد كان الحكم يمارس دائماً بواسطة قلة من الأسر الأرستقراطية التي كانت تتولى السلطة من خلال حكومات الأقلية التي كانت تحكم سواء في روما أو الأقاليم التي تخضع لها.
كذلك بالرغم من إشارة سيشرون إلى وجوب استخدام القوة استخداماً سليماً وقانونياً إلا أن القانون في حد ذاته إن هو إلا شكل من أشكال القوة، أو تعبير عن علاقات القوة، بل هو أداة لتنظيم هذه القوة. وعلى ذلك فإن الفلاسفة الرومان لم يقننوا إلا ما يمكن أن نسميه بعلاقات القوة على مستوى الفرد والجماعة والدولة، والتي كانت القوة فيها في يد أقلية على الدوام.
والسلطة هي القوة المقبولة اجتماعياً وهي حق لبعض الأفراد لممارسة القوة وإصدار الأوامر والتعليمات، وعلى الآخرين واجب الامتثال والطاعة. ويتم التمييز في السلطة بين عنصرين أساسيين هما: الشرعية واللاشخصية. فحينما نقول إن السلطة مقبولة اجتماعياً فنحن نقصد بذلك أنها شرعية. ذلك أنه حين يعترف الناس بأن القوة القائمة من حقها أن تمارس سيادتها، فمعنى ذلك أنهم يمتثلون لها. والامتثال هنا صادر من الإرادة ورغبتها في تفويض بعض الأفراد للقيام بمهام ممارسة القوة أو السلطة الشرعية.