الثلاثاء , يوليو 16 2024

عم مكارم : قصة قصيرة من كتاب “الفرعون والمرشد” للروائي إيليا عدلي

عم مكارم “ليت لي خشوع عم مكارم” .. أخذت أتمتم في قلبي هكذا أثناء وقوفي أصلي بإحدى الكنائس ، في كل مرة أصلي فيها بهذه البيعة ، يجذب فيها قلبي هذا الرجل السبعيني ، ويشذب عنه ما يغطيه من سواد الكبرياء ، انحناءة تسبيحه الخاشع .. تزيح عن ذهني الركام الذي يشوشه ، الإدانة لأغلاط الآخرين والتأمل المستمر في سلوك بشر هذا العصر ، الذي أجيزه لنفسي بغرض إلتقاط فكرة قصة هنا .. أو رواية هناك.

في خِضَمّ هذا المحيط المتنامي من عالم يموج بتجارة الدين ، ومجتمعات وجدت في الدين مطية سهلة الإستخدام في أمور السياسة ، أو الرقي الإجتماعي من خلال التدين الظاهري .. مناخ أتاح لأفراد فاسدين أو فاشلين ، يجدون فيه ما يرفع من شأنهم الإجتماعي ، يطوعون فيه الحراك الإجتماعي تطويعاً ، يتسلقون سلماً سهلاً ، تجسد فيه قول الكتاب:

“أما قلبهم ، فمبتعد بعيداً عني”

هتف الشماس بصوت ملائكي ، ملأ أرجاء البيعة: –

قبلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة..

مد جميع المصلين أيديهم مصافحين بعضهم البعض ، مكملين طقس الصلح والمحبة الصافية ، مقبلين أيديهم بعد كل مصافحة لأخذ بركة التسامح والمحبة ، تزامناً مع فعل نفس الطقس بخورس الشمامسة ، حيث يقف عم مكارم بآخر مقعد ، متشحاً بلباس الشماس الأبيض ، الذي تشم فيه رائحة الزمن ، مختلطاً بالبخور العتيق .. فكم من صلوات وخدمة شهدتها هذه التونية الشموسية على هذا الجسد الواهن ، صافح كل ابنائه وأحفاده في الخدمة بإبتسامته الهادئة المملوءة حباً وبركة.

انصرف جميع الشمامسة بنظرهم إلى الهيكل ، متبادلين الميكروفون فيما بينهم ، متبارين في التنغيم واثراء ألحانهم بأفضل صوت ، تاركين عم مكارم خلفهم بالصف الأخير ، يشاطرهم الصلوات ومرداتها ، بصوت ضعيف ، زائغ العينين للسماء ، بالرغم من شعورك أنه ينظر للأرض ، تابعته ، استمد منه روحاً تدفعنى لأعلى ، عيناه المتأملتان .. تعطي ايحاءاً بأنه لا يشعر بوجود أحد حوله .. غير من يرسل له تسبيحاته ، استحضر المشهد ما حدث منذ ألفي عام ، حينما حلّ يسوع ببيت الأختين ، انشغلت مرثا بأمور كثيرة .. تكون فيها خادمة للضيف ، كما انشغل معظم الشمامسة بالميكروفون ، وتجويد أصواتهم ، والنظر نحو المصلين هنا وهناك ، وكإنشغالي أنا أيضاً بتقييم كل المشهد ، أما مريم فجلست تستمع كمخدومة لرب البيت ، كما يفعل عم مكارم ، علّمتهُ السنوات الطوال في خدمة المذبح أن يكون مخدوماً أولاً من رب البيت ، يستمد منه الروح التي يخدمه بها ، وحينما يمتليء .. يمتلك القدرة على الفيض لمن حوله ، حتى حين يصمت ، يفيض بروح من ملأه.

سافرت في وجه الرجل ، تأملت ابتسامته التي لم تتغير منذ كنت طفلاً أمُر بورشة النجارة البدائية خاصته ، كان لايزال شاباً ، يكتسي بنفس الهدوء ، نفس البساطة ، ذات الحركة البطيئة لشاب يمتلك سكينة وحكمة الشيوخ ، امتهن النجارة كسيده ، ورث منه الكثير ، عكس عنه صورة بديعة الرسم.

يلكزني ضميري بين الفينة والأخرى ، كيف أسبَحَ بذهني خارج الصلاة .. وهل من صلاة تصلني بربي كهذه العظة الصامتة؟! الصلاة موجودة دائماً ، ولكن سيلومني ضميري أكثر لو رحل هذا الرجل دون أن أتأمل إنجيله ، دون أن أقرأ عظته الصامتة ، دون أن أخترق أغوار تجربته الروحية العميقة ، فكم من مصلين يتلون الصلوات كطقس متكرر ، أو عدد أيات مكررة على المسبحة ، يُرَكَز فيها على عدد الحبات المتساقطة دون روح الكلمات ، يشربون الآيات بدلاً من استخدامها لغسيل أرواحهم وقلوبهم ، التزامهم بها بهدف الحصول على ضمير متدين .. لا يجب أن تؤخذ هذه وتترك تلك!

ساعتين مدة القداس .. اختلطت فيها صلاتي ، مع الكثير من المشهيات الروحية التي اقتنصتها من شعاب الرجل وشريط حياته ، حتى رن في أذني صوت الكاهن الممسك بإبريق الماء يصرف المصلين بمنح البركة:

-إمضوا بسلام ، سلام الرب مع جميعكم.

رددت مع الجميع ، قاصداً الكاهن وعم مكارم:

-ومع روحك أيضاً.

طيلة أسبوعين بعدها ، يطاردني التفكير في الرجل وتدينه البسيط .. الحقيقي ، وضميري يضج مضجعي لما أقترفه من مقارنة الرجل ببعض المرائين الذين نقابلهم ممن يتاجرون بالدين عن قصد أو عن غير عمد ، فهم من مرتادي الكنائس أيضاً ، هل أكسر الوصية القائلة: “المحبة لا تظن السوء”؟! .. ولكن الوصية أيضاً: “كونوا حكماء كالحيات ، ودعاء كالحمام” .. تحتم علي إعمال عقلي لتقييم البشر.

في صباح يوم بالأسبوع التالي ، خرجت لعملي على خبر نياحة عم مكارم ، لم أشعر بالحزن ولا الأسى عليه ، بل استقبلت الخبر بإبتسام ، فرحت لفرحة الرجل بإنتقاله إلى مستقره ، ومغادرته لوحشة الغربة التى بقى فيها حتى هرم.. حينما ينطلق هذا النوع من البشر عن عالمنا ، لا تشعر نحوه بغير التعزية ، وتذكر محاسنه وفضائله .. صعد عم مكارم للسماء كالحمام الوديع ببساطة وسهولة ، تاركاً الطريق الأصعب لمن اختاروا حكمة الثعابين ، كل متحزلق ، مقيد بما أبتلي به من تلافيف التفلسف .. تركنا نحن !

 

شاهد أيضاً

المصريون يعتقدون بأن “الأكل مع الميت” فى المنام يعني قرب الموت .. وعالم يؤكد بأنه خير

يستيقظ جزء كبير من المصريين باحثين عن تفسير ما كانوا يحلمون به بالليل بل ويقضون …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.