عم مكارم “ليت لي خشوع عم مكارم” .. أخذت أتمتم في قلبي هكذا أثناء وقوفي أصلي بإحدى الكنائس ، في كل مرة أصلي فيها بهذه البيعة ، يجذب فيها قلبي هذا الرجل السبعيني ، ويشذب عنه ما يغطيه من سواد الكبرياء ، انحناءة تسبيحه الخاشع .. تزيح عن ذهني الركام الذي يشوشه ، الإدانة لأغلاط الآخرين والتأمل المستمر في سلوك بشر هذا العصر ، الذي أجيزه لنفسي بغرض إلتقاط فكرة قصة هنا .. أو رواية هناك.
في خِضَمّ هذا المحيط المتنامي من عالم يموج بتجارة الدين ، ومجتمعات وجدت في الدين مطية سهلة الإستخدام في أمور السياسة ، أو الرقي الإجتماعي من خلال التدين الظاهري .. مناخ أتاح لأفراد فاسدين أو فاشلين ، يجدون فيه ما يرفع من شأنهم الإجتماعي ، يطوعون فيه الحراك الإجتماعي تطويعاً ، يتسلقون سلماً سهلاً ، تجسد فيه قول الكتاب:
“أما قلبهم ، فمبتعد بعيداً عني”
هتف الشماس بصوت ملائكي ، ملأ أرجاء البيعة: –
قبلوا بعضكم بعضاً بقبلة مقدسة..
مد جميع المصلين أيديهم مصافحين بعضهم البعض ، مكملين طقس الصلح والمحبة الصافية ، مقبلين أيديهم بعد كل مصافحة لأخذ بركة التسامح والمحبة ، تزامناً مع فعل نفس الطقس بخورس الشمامسة ، حيث يقف عم مكارم بآخر مقعد ، متشحاً بلباس الشماس الأبيض ، الذي تشم فيه رائحة الزمن ، مختلطاً بالبخور العتيق .. فكم من صلوات وخدمة شهدتها هذه التونية الشموسية على هذا الجسد الواهن ، صافح كل ابنائه وأحفاده في الخدمة بإبتسامته الهادئة المملوءة حباً وبركة.
انصرف جميع الشمامسة بنظرهم إلى الهيكل ، متبادلين الميكروفون فيما بينهم ، متبارين في التنغيم واثراء ألحانهم بأفضل صوت ، تاركين عم مكارم خلفهم بالصف الأخير ، يشاطرهم الصلوات ومرداتها ، بصوت ضعيف ، زائغ العينين للسماء ، بالرغم من شعورك أنه ينظر للأرض ، تابعته ، استمد منه روحاً تدفعنى لأعلى ، عيناه المتأملتان .. تعطي ايحاءاً بأنه لا يشعر بوجود أحد حوله .. غير من يرسل له تسبيحاته ، استحضر المشهد ما حدث منذ ألفي عام ، حينما حلّ يسوع ببيت الأختين ، انشغلت مرثا بأمور كثيرة .. تكون فيها خادمة للضيف ، كما انشغل معظم الشمامسة بالميكروفون ، وتجويد أصواتهم ، والنظر نحو المصلين هنا وهناك ، وكإنشغالي أنا أيضاً بتقييم كل المشهد ، أما مريم فجلست تستمع كمخدومة لرب البيت ، كما يفعل عم مكارم ، علّمتهُ السنوات الطوال في خدمة المذبح أن يكون مخدوماً أولاً من رب البيت ، يستمد منه الروح التي يخدمه بها ، وحينما يمتليء .. يمتلك القدرة على الفيض لمن حوله ، حتى حين يصمت ، يفيض بروح من ملأه.
سافرت في وجه الرجل ، تأملت ابتسامته التي لم تتغير منذ كنت طفلاً أمُر بورشة النجارة البدائية خاصته ، كان لايزال شاباً ، يكتسي بنفس الهدوء ، نفس البساطة ، ذات الحركة البطيئة لشاب يمتلك سكينة وحكمة الشيوخ ، امتهن النجارة كسيده ، ورث منه الكثير ، عكس عنه صورة بديعة الرسم.
يلكزني ضميري بين الفينة والأخرى ، كيف أسبَحَ بذهني خارج الصلاة .. وهل من صلاة تصلني بربي كهذه العظة الصامتة؟! الصلاة موجودة دائماً ، ولكن سيلومني ضميري أكثر لو رحل هذا الرجل دون أن أتأمل إنجيله ، دون أن أقرأ عظته الصامتة ، دون أن أخترق أغوار تجربته الروحية العميقة ، فكم من مصلين يتلون الصلوات كطقس متكرر ، أو عدد أيات مكررة على المسبحة ، يُرَكَز فيها على عدد الحبات المتساقطة دون روح الكلمات ، يشربون الآيات بدلاً من استخدامها لغسيل أرواحهم وقلوبهم ، التزامهم بها بهدف الحصول على ضمير متدين .. لا يجب أن تؤخذ هذه وتترك تلك!
ساعتين مدة القداس .. اختلطت فيها صلاتي ، مع الكثير من المشهيات الروحية التي اقتنصتها من شعاب الرجل وشريط حياته ، حتى رن في أذني صوت الكاهن الممسك بإبريق الماء يصرف المصلين بمنح البركة:
-إمضوا بسلام ، سلام الرب مع جميعكم.
رددت مع الجميع ، قاصداً الكاهن وعم مكارم:
-ومع روحك أيضاً.
طيلة أسبوعين بعدها ، يطاردني التفكير في الرجل وتدينه البسيط .. الحقيقي ، وضميري يضج مضجعي لما أقترفه من مقارنة الرجل ببعض المرائين الذين نقابلهم ممن يتاجرون بالدين عن قصد أو عن غير عمد ، فهم من مرتادي الكنائس أيضاً ، هل أكسر الوصية القائلة: “المحبة لا تظن السوء”؟! .. ولكن الوصية أيضاً: “كونوا حكماء كالحيات ، ودعاء كالحمام” .. تحتم علي إعمال عقلي لتقييم البشر.
في صباح يوم بالأسبوع التالي ، خرجت لعملي على خبر نياحة عم مكارم ، لم أشعر بالحزن ولا الأسى عليه ، بل استقبلت الخبر بإبتسام ، فرحت لفرحة الرجل بإنتقاله إلى مستقره ، ومغادرته لوحشة الغربة التى بقى فيها حتى هرم.. حينما ينطلق هذا النوع من البشر عن عالمنا ، لا تشعر نحوه بغير التعزية ، وتذكر محاسنه وفضائله .. صعد عم مكارم للسماء كالحمام الوديع ببساطة وسهولة ، تاركاً الطريق الأصعب لمن اختاروا حكمة الثعابين ، كل متحزلق ، مقيد بما أبتلي به من تلافيف التفلسف .. تركنا نحن !