د.ماجد عزت إسرائيل
منذ عهد الملك محمد بن قلاوون (1309-1341م) تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية وبالتحديد عام (720هـ/1320م) تعرضت كنائس وأديرة الأقباط للتخريب والحرق على يد المسلمين فى جميع أنحاء مصر،ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، ويحصى المقريزى بعد ذلك الخسائر التى سببتها هذه الكارثة فيقول إن عدد الكنائس التى خربت أربع وخمسون كنيسة فضلا عن عدة أديرة هدمت على آخرها،وقتل عدد كبير من الناس وحدثت خسائر لا تحصى فى الأموال،وهنا لابد أن نسجل أن مدينة مارمينا بصحراء مريوط كانت ضمن المناطق التى خربت تماماً وتم تهجير سكانها وحرقت وهدمت كنائسها وديرها وأندثرت معالمها على أيدي المعتدين.
وعلى الرغم من تعرض المدينة للدمار المستمر لقرون بعد ذلك، وزال عنها المجد والبهاء. وربما لأنتقال جسد القديس مارمينا منها لمدينة أخرى، معرضاً بذلك للضياع بصورة ربما لم تحدث لجسد قديس آخر. ولكن الله حفظه على مر الأزمان، حتى عندما ألقى به إلى النيران لم يحترق، بل تبدى منه نور بهى. وكان الله يظهره فى كل مرة يضيع فيها، وفى كل مكان ينتقل إليه، لأن هذه العظام المقدسة هى لجنده الباسل شهيده مارمينا. وفى النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي أى عقب أحداث الخراب التى حلت بكنائس وأديرة الأقباط فى عام (720هـ/1320م) انتقل الجسد عبر رحله طويلة من صحراء مريوط إلى كنيسته بفم الخليج بمصر القديمة فى النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي.
وفى عهد محمد على باشا(1805 – 1848م) قضى على البقية المتبقية من الدير والكنائس والمنشآت بمدينة “بومينا” بصحراء مريوط، لمنع عمليات السلب والنهب التي تفشت بالمنطقة حيث استغل اللصوص هذه الأطلال المهجورة كأوكار لهم، وأصبح المكان أكواماً من التراب والحجارة كما ساهمت العواصف الطبيعية الرملية فى أندثار معالم المدينة تماماً تحت الكثبان الرملية الناعمة.
وفي أوائل القرن العشرين الميلادي وبالتحديد عام 1905م أكتشف الأسقف الألمانى “كارل ماريا كارفمان” مدينة بومينا وأديرتها ثم تلتها أبحاث أخرى على فترات متباعدة للمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية والمتحف القبطي بالقاهرة والمعهد الألماني للآثار الشرقية بالقاهرة عاد للبحث منذ 1961 م بإشراف العالم الألماني الدكتوربيتر جروسمان.ويذكر القمص صليب سوريال كاهن كنيسة مار مرقس بالجيزة: ” أنه تقابل فى سويسرا مع أحد رجال الدين الأجانب فوصف البابا كيرلس السادس قائلاً:” إنه بطريرك عظيم ذو أفق وأسع تمثل تاريخ كنيسته وشعبه” فسأله أبونا عن السبب لهذا المديح،أجاب:”لأنه يقوم بتعمير منطقة القديس مينا ذات القيمة التاريخية الفريدة”.أما نحن الأقباط فنرى أنه لم يتمثل تاريخ كنيسته فقط بل عاش هو نفسه هذا التاريخ بكل ما احتواه من فرح وما انسكبت خلاله دموع.
على أية حال،كان أبونا مينا البراموسي فيما بعد “البابا كيرلس السادس” فى أثناء فترة رهبنته مشتاق لأعادة تعمير دير مارمينا فاستأذن غبطه البابا يؤانس التاسع عشر ، ومن بعده الأنبا “يوساب الثاني” في أمر إعادة تعمير دير مارمينا القديم بصحراء مريوط، أكبر وأشهر أديرة مصر على مر التاريخ العالمى ولكنه لم يحصل على الموافقة.وعندما كان يزور منطقة “بومينا” ينفطر قلبه حزناً وأسى على ما لحقها من تخريب أودى بنضرة الحياة، وسحق عظمة البناء، وعصف بخضرة المروج ،وتحولت المنطقة لبقعة قاحلة. وهنا يجب أن نؤكد أن مينا البراموسي عشق أن يعيش فى رحابه بمريوط، فأرسل يطلب من مصلحة الآثار التصريح له بالسكن فى حجرة تحت كنيسة مارمينا الأثرية هناك. وظل انتظاره وهو يرسل الاستعجالات، حتى جاءه الرد بالموافقة بعد ظهور القرعة باختياره بطريركاً. وكانت هذه بشرى جميلة، وإعلان سمائى أدرك البابا مغزاه. أنه لم يسكن فى حجرة طلبها وهو راهب، بل سيعمر المنطقة كلها بعد أن أصبح بابا الإسكندرية.
وهنا يجب أن نسجل للتاريخ، أن قداسة البابا كيرلس السادس عقب توليه الدار البطريركية فى 10 مايو 1959م أرسل البابا إلى هيئة تعمير الصحارى بطلب شراء خمسين فداناً بجوار مدينة بومينا الأثرية بمريوط، ثم أعقبه بطلب شراء خمسين أخرى بذات المنطقة.
وظل حنين البابا كيرلس السادس إلى تعمير دير قديسه المحبوب مارمينا العجايبى، الذي كان بمثابة ذراعه اليمين في كل كبيرة وصغيرة، ولذلك كان يلازم غبطته دائما شعور بالتقصير نحو سداد الدين الذي عليه لشفيعه الحبيب. وهذا ما حدا به أن يقيم له كنائس تحمل اسمه وإن تعذر فهيكلا داخل أي كنيسة يخصص باسمه. ولكن البابا كان يريد بناء كاتدرائية ذات الهياكل السبعة لقديسه. ففى يوم السبت 27 نوفمبر 1960م قام بزيارة كتلك التى قام بها قبل ذلك بسنة إلى منطقة خرائب الدير بمريوط. وقد صحبه فى هذه الزيارة الأنبا مرقس مطران طهطا وطما وأبو تيج والأنبا ميخائيل مطران أسيوط والأنبا أنطونيوس مطران سوهاج. وقد اشترك ثلاتهم معه فى صلوات القداس الإلهى. وقبل ذلك،وعقب قراءة الفصل المختار من الإنجيل ألقى الأنبا ميخائيل عظة أبرز فيها الجهاد الروحى العنيف الذي جاهده الأقباط منذ العصور الأولى. ثم أوضح مكانة مارمينا فى القلوب والفخامة التى كانت عليها كتدرائيته فى مدينته التى خربت ما بين القرنين العاشر والرابع عشر الميلادي. واستكمل نيافته بإعلانه عن عزم البابا الوقور على إعادة تعمير هذه المنطقة لترتفع منها الصلوات والألحان بعد ما خفت ما يقرب من عشرة قرون.
ومن الجدير بالذكر عقب هذا القددس الإلهي مباشرة اتجه البابا كيرلس السادس إلى الأرض التى اشتراها من هيئة تعمير الصحارى، وصلى فيها وباركها بحضور لفيف من الآباء الأساقفة والبطاركة وبعض الشعب،وقام بوضع حجر أساس الدير الحديث للشهيد مارمينا العجائبي بمريوط،وذلك بمناسبة الاحتفالات الخاصة بذكرى إستشهاد القديس مارمينا.وفى أثناء هذا الاحتفال طلب بعض الحاضرين من البابا أن يجلس على الكرسى الكبير الذى أعد لقداسته فرفض قائلاً : “أن هذا الكرسى لمارمينا”. وبدأ المقاولان السكندريان شاروبيم وفرج إقلاديوس العمل، فأقيمت كنيسة صغيرة، وحجرة لقداسة البابا، وأخرى لعمل القربان، وكان البابا ومرافقوه يقضوه فى هاتين الحجرتين أياماُ بل شهوراُ فى ظروف قاسية لا يتوافر فيها أمن أو راحة، وذلك للاطمئنان على سير العمل.
على أية حال،وافقت مصلحة الآثار بعد ذلك على طلب البابا كيرلس السادس بنقل كمية من الأحجار ليست لها قيمة أثرية لاستخدامها فى بناء الدير. وقام العمال بنقل الأحجار باستخدام الجرارات، واستغرق ذلك سنتين كاملتين وأقيم سور حول مساحة تقدر بخمسة عشر فداناً من أرض الدير، وبنيت هناك بعض القلالى وكنيسة أخرى، دشنت فى احتفال كبير حضره آلاف المصلين. وفي فبراير 1962م أعاد البابا جزء من رفات الشهيد مارمينا العجائبى من كنيسته بفم الخليج إلى دير مارمينا بمريوط. ولكن الحنين إلى كنيسة مارمينا الأثرية، دفع البابا إلى أن يمتطى دابة، وتوجه بها إلى هناك للتبرك من أرض مارمينا.
ولكن الكنيسة الأثرية بهياكلها السبعة كانت تجذب أفكار البابا كيرلس السادس فشرع فى بناء كنيسة أخرى تشابهها فى عظمتها، إحياء لذكرى حبيبه البطل مار مينا الذى كان الناس يأتون إليه من مختلف بقاع الأرض: أباطرة،وقادة،وأغنياء،وفقراء،ملتمسين بركة صلواته وشفاعاته. وفى عام 1961م وضع البابا كيرلس السادس حجر الأساس لكاتدرائية مارمينا بمريوط ولكن الإنشاءات بدأت فعلا عام 1969 م، ومساحة هذه الكنيسة تزيد على مساحة الكاتدرائية المرقسية القديمة بالقاهرة، وقد ترك البابا مبلغ خمسة وخمسون ألفاً من الجنيهات لإتمام هذه الكنيسة التى تليق بالشهيد.وعين البابا كيرلس تلميذه القمص مينا الصغير رئيساً للدير، واستمر فى رئاسته أيضًا فى عهد البابا شنودة الثالث البطريرك رقم (117) (1971-2012م).
على أية حال، افتتح البابا شنوده الثالث البطريرك رقم (117) (1971-2012م) كاتدرائية مارمينا بمريوط بالصلاة بعد اكتمال الهيكل الإنشائي عقب عيد استشهاد مارمينا 26 نوفمبر 1976م وسام بهذه المناسبة أربعة رهبان جدد للدير.وأيضًا سيامة القمص مينا آفا مينا رئيس الدير أسقفاً على الدير في 17 بشنس 1696 ش/ 25 مايو1980م تقديراً للمسئولية الكبيرة التي تركها له البابا كيرلس السادس. وبعد نياحة الأنبا مينا فى11 ديسمبر 1996م، قام البابا بسيامة الأنبا كيرلس آفا مينا أسقفاً ورئيساً للدير في 8 بؤونه 1719 ش /15 يونيه 2003م(أطال الله عمره سنين عدة وأزمنة سلامية) ،وفي عام 2005 قام قداسة البابا شنودة الثالث بتدشين كاتدرائية مارمينا الكبرى بالدير وسط حضور العديد من الأباء أعضاء المجمع المقدس.ونذكر للتاريخ أن البابا شنودة كان يزور الدير كثيراً حيث كان أحياناً يصلي البصخة بالدير كذلك تطيب جسد الشهيد في أعيده. كما قام قداسة البابا تواضروس الثاني البطريرك رقم (118) (منذ 4 نوفمبر 2012م- أطال الله عمره سنين عدة وأزمنة سلامية) فى 2 سبتمبر2013 بتدشين أول كنيسة على أسم القديس العظيم البابا كيرلس السادس وذلك في دير مارمينا.
فليس ثمة شك إذاً فى أن الله دفع بقداسة البابا كيرلس السادس لإحياء مجد وذكرى هذا القديس الوطنى العظيم مارمينا، ليتبوأ مكانته اللائقة به، وإلى بعث الحياة والعمران مرة أخرى فى تلك الأرض التى ملأها مارمينا من قبل بالحياة والعمران وأن ما فعله البابا هو حدث هام من سلسلة الأحداث بل المعجزات التى دبرها الله لتبقى ذكرى هذا القديس دائمة إلى الأبد،على ما سيتأكد بالأكثر وشيكاً.