كتب محمد السداني مقالة يطلب من خلالها الوافدين بالرحيل والعودة الى بلادهم تحت عنوان عزيزي الوافد… أسألك الرحيلَ! ، أنتشرت كلمات المقالة مثل النار فى الهشيم لروعة ما فيها من كلمات وستقوم الاهرام بنشرها لكم كما هى بدون تدخل منا
اليكم ما كتبه محمد السدانى
لعلي لستُ الشخص المناسب الذي من الممكن أن يعطي دروساً عن الحياة بحكم حداثة سني، وقلة خبرتي الحياتية، لكنيَّ بكلامي هذا عشت تجربة واقعية تشابه وضع الكثير من الناس في حياتنا اليومية، إني وأنا أنظر إلى دورة الحياة العملية التي تضع الكثير في دوامتها فتطحنهم طحنا من دون رحمة، وتجعل الإنسان عبدا لشهواته ورغباته التي لا تنتهي ولا تقف عند حد ما.
لقد كنت أحد الأشخاص الذين ذكرتهم سالفا، كنت هذا الشخص الذي يبحث عن كل فرصة للعمل، والبحث عن أي وسيلة لكي أعمل أكثر وأكثر، من دون تفكير أو وعي أو تركيز، أنتقل من عمل إلى عمل وأعمل في أكثر من مكان بأكثر من جهد دونما أن أشعر بنفسي وأنا أصبح رجلا آليا يعمل بلا إحساس ولا شعور، فاقدا أجمل علاقاتي وذكرياتي من أجل سراب سينتهي في يوم ما.
عزيزي الوافد، يا من يملك وطنا جميلا وأسرة صغيرة تحتويه ويحتويها، ويملك أصدقاء عاش معهم أجمل لحظات حياته، يقاسمهم الحب والحزن، والفرح والهم، ويملك أما وأبا يفوح منهم شذى الحب والعطف والاحتواء، عُد إلى وطنك، الوقت ما زال مناسبا للرحيل. إنَّ الحياة المادية التي تبحث وتلهث وراءها مقتنعا أنَّك بهذا تبني مستقبلا مشرقا لك ولأبنائك، خدعةٌ كبرى، فأنت في هذه الحياة تبني حياة لغيرك على أنقاض حياتك، وصحتك، وراحتك، وعلاقاتك التي لن تعود. فأنت هنا تفقد كل شيء لأجل لا شيء فتعود بعدما أرهقتك سنين الحياة، وتلاطمت بك أمواج الرغبات، إلى وطن لا تملك فيه أصدقاء تعرفهم، ولا أهلا تربطك بهم علاقة قوية، ولا شارعا لعبت وتربيت فيه وعشت فيه أجمل مراحل حياتك. ارحل فما زال الوقت مناسبا للرحيل. صحيح أنَّ من لم يغامر ويتشجع ويُقدِم على السفر خارجا بحثا عن الرزق، لا يملك مالا أنت تملكه ولا يملك سيارة أنت تملكها ولكنه يملك ما ستبحث عنه طول عمرك! فهو يملك محيطا يحتويه، وأصدقاء يقاسمهم ذكرياته، وبلدا كان جزءاً من تاريخ أحداثه.
ارحل فالوقت ما زال مناسباً لكي لا تظلم نفسك وأبناءك وأحفادك، ببيئة ليست بيئتهم ووطن ليس وطنهم، فيعيشون على هامش كل شيء، ثمَّ يعودون إلى وطن لا يعرفون منه شيئا إلا الاسم وجواز السفر. فلا هم مواطنون ولا هم وافدون، فتبدأ من جديد مسيرة البحث عن غربة للهروب من الوطن أو إذا صح التعبير «اللا وطن»، ضحكات أمك في الصباح والمساء، ورائحة تراب شارعكم، ورائحة خبزكم ، وجلسات أهلكم ليلا في الشتاء حول مدفئة مصنعة محليا، هي أغلى بكثير من السيارة الفارهة التي ستركبها لوحدك، وأجمل من البيت الذي ستعيش فيه مع صدى صوتك الذي بُحَّ سنين طوالا وأنت تحاول أن تثبت لنفسك أنك سترتاح يوما ما، وتجمع الأصدقاء وذكرياتهم في الشارع والحي والحقل وهم يروون كل صغيرة وكبيرة بحلوها ومرها بجوعها وشبعها، سوف لن تكون جزءا منها لأنَّك بكل بساطة لا تملك إلا ذكريات الدينار والدرهم، وشقاء إثبات الوجود في مجتمعات كثيرة تضطهد كل ضعيف.
ما زال الوقت مناسبا لتلحق بالركب، فتضحك قليلا وتبكي قليلا، وتكون جزءا من ذكريات من تبقى من أهلك وأصدقائك وشارعك الذي لم ولن ينظر إليك نظرة استصغار أو احتقار لكونك رحلت عنه ملتحقا بركب الحياة المادية والبحث عن المال. ارحل فالأصدقاء أغلى من أن يبدلوا بسيارة أو كرسي مريح جلبته من الغربة لتعوض به سنين الشقاء والعناء، وأهلك أغلى من أن تتركهم سنين طوالا، فتعود بعدها محملا بالهدايا التي لن تعوض وجودك بينهم في أفراحهم وأحزانهم، فأنا أرجوك أن ترحل لأن الرحيل الآن هو الحل الوحيد لكي تعود إلى نفسك ومحيطك وإنسانيتك التي تقتلها وأنت لا تعلم.
***
خارج النص:
ستصبح خارج النص يوماً ما إذا لم ترحل… فارحل.
AlSaddani@hotmail.com