بقلم / واسيني الأعرج
بعض المظاهر الحضارية في العالم العربي لا يمكن فهمها بسهولة. كأن هناك مقاومة عنيفة لكل سبل التطور والاكتفاء بما هو موجود. وكأن الحداثة بمعناها الإنساني الواسع مخيفة، في وقت أن الكثير من الأمم حسمت خياراتها الثقافية والحضارية من هذه الناحية. من بين هذه المظاهر التي لم يعطها العرب أية أهمية السينما، واكتفوا بالاستثمار في المسلسلات التي تؤكد في مجملها على الارتكان إلى حالة الجمود المتكرر، ناهيك عن محليتها المفرطة التي لا تُغيِّر شيئاً في صورة الإنسان العربي التي تم اختزالها وتشويهها عالميا لدرجة أن التطرف أصبح وكأنه جينات تولد مع الإنسان، وليس صورة عن اليأس الحداثي من اللحاق بالأمم الأخرى، وخيبة التحول الإيجابي، مما تتولد عنه حالة اليأس التي تدفع حتما إلى كل الانحرافات الممكنة. لهذا يصبح طرح السؤال في عصر تحكمه اليوم الصورة: لماذا تخلَّف العرب في إنجاز سينما وطنية أو قومية تتبنى مشكلاتهم التاريخية والحضارية؟ هل هناك خوف من السينما بوصفها مساحة تجلي الحرية؟ أم مرد القضية هو الخوف من هذه الصناعة الحية التي تجهل من الصورة
سلاحا للبناء أو الكسر؟.
الفضاء العربي للسينما ليس مغلقا كليا. من المؤكد أنه توجد أفلام تظهر من حين لآخر، لكن لا وجود لصناعة سينمائية حقيقية مبنية على مسبقات وحاجات ثقافية مثلما حدث مع الدياسبورا اليهودية في أمريكا التي حملت على عاتقها، بالخصوص في المهاجر الأمريكية، مهمة تغيير السلبية التي نتجت تاريخا عن معاداة السامية في أوروبا تحديداً وبالخصوص في نهاية القرن التاسع عشر. لا يُفكِّر الرؤساء العرب عموما، ولا رجال المال في هذا، مع أن النشاط التجاري في العالم العربي شهد حركية كبيرة في السنوات الأخيرة. لكنه نشاط مرتبط بالسلع السهلة، أو السوق الافتراضية، والمال السريع وليس المراهنة على استثمار المال وتكوين مؤسسات مواجهة ثقافية وحضارية بإنتاج البدائل التي تغير صورة الآخر عنّا. لا يفكر العرب مجتمعين مطلقا في هذا. ولا أعتقد أنهم سيفكرون في ذلك، في القريب العاجل. المتأمل لهذا الغياب سيدرك بسهولة أن السينما ليست مسألة إستراتيجية في ثقافتهم. وربما أيضا لأن الصناعة السينمائية تقتضي جهدا وصبرا كبيرين، غير متوفرين اليوم لدى الرئيس العربي أو المستثمر العربي الراكض نحو ربح اللحظة بدون إستراتيجيات ثقافية وحضارية. مع أن السينما جهاز إستراتيجي خطير يُغيِّر الأشياء في العمق وإن بدا صامتا، ويُراهن على امتلاك القدرة على التحكم في الذائقة الجمعية. لنا في الدياسبورا اليهودية مثال حي على ذلك. في عز تيهها وهجراتها ومآسيها وأحزانها، وجدت هذه الدياسبورا في العصب المالي أولا، استمراراً لوجودها، لأنها كانت تعرف سلفا أنه لا قوة تحرك المجتمعات إلا المال، ولا إستراتيجيات بعيدة المدى بدون وضع هذا المال في أمكنته الحيوية، أي الحاجة إلى العقل المنظم والمفكر. من هناك راهنت على تغيير صورة اليهودي القبيح الذي رسمته معاداة السامية بأبشع الصور، وضخمتها الحالة الفرنسية في القرن التاسع عشر، عندما أصبح كل يهودي مشكوك في ولائه للوطن، وخائنا أيضا. قضية الضابط اليهودي الفرنسي الشاب دريفوس، الذي حمل على عاتقه هزيمة الجيش الفرنسي أمام ألمانيا، فاتهم بتسريب أسرار للعدو، وكتب عنه الروائي الفرنسي إيميل زولا رسالة، وجهها لرئيس الجمهورية، في الدفاع عن هذا الشاب، وحملت عنوان: إني اتهم. عملت هذه الدياسبورا على تغيير هذه الصورة، فوجدت في السينما وسيلتها الحيوية. ليست هوليوود إلا تجسيدا حيا لذلك. فقد جُندت لاقتراح البدائل وتصنيع المستقل. الاستوديوهات السينمائية العظيمة لكل من إم. جي. إم MGM، وارنر بروسWarner Bros، توانتيث ِسانتوري فوكسTwentieth Century fox، وغيرها، أنشئت كلها من طرف شباب من الدياسبورا المهاجرة من أوروبا الشرقية. في بداية القرن العشرين، على أن السينما عصب ثقافي حاسم. وصلت مع الزمن إلى أن تشكل قوة حاسمة في تسيير الرأي العام الأمريكي. لم يفكر العرب في صناعة سينمائية قادرة على تغيير الصورة النمطية عنهم. على العكس من السينما التركية والهندية، وهي أقل بكثير من العرب مالا وإمكانات، ومع ذلك فرضت وجودها العالمي. متى نرى مستثمرا عربيا مميزا ومثقفا وكبيرا بروحه أيضا، يأتينا باستوديوهات عربية، ويغير من صورة العربي نهائيا، وتمنحنا أفلاما عن تاريخنا الحي، سقوط الأندلس، الشخصيات العربية التي غيّرت وجه الإنسانية كابن رشد وابن خلدون، الرازي وغيرهم، كلها مواد حية للدخول في المعترك السينمائي العالمي؟.