كتب: مدحت عويضة
لم أكن أتخيل يوما أنني سأكتب مقالا أنعي فيه رحيل واحد من أعز الناس علي قلبي، من أكثر الناس المثقفين الذين تقابلت معهم في حياتي، محلل سياسي بارع، شاعر عامي بدرجة قدير جدا، كرم كان ضحكتنا وبهجتنا وفرحتنا فنحن نضحك عندما يكون معنا وأن غاب فنضحك علي مواقفه مع كل منا.
عندما أجلس خلف شاشات الكمبيوتر لأضحك بصوت عالي تعرف زوجتي وبناتي أنني أتكلم مع عمي كرم يحضر الجميع ويطلب مني ترجمه المحادثة.
كرم بارح عوض حدوته مصرية.
حصل كرم علي ليسانس الأداب قسم صحافة وإعلام سوهاج ١٩٨٣، كان يعشق اللغة الإنجليزية وكان يتكلمها بطلاقة.
كان هو أستاذنا ونحن في الثانوية العامة أعطي لكل أفراد العائلة دروس في اللغة الإنجليزية.
بعد تخرجه ألتحق للعمل في أخبار اليوم ظل يتدرب فترة وسرعان ما تركها للعودة لقريتنا مرة أخري، حاول أولاد عمومته جذبه من بلدتنا للإسماعيلية، لكن كرم كان كارها للمدينة وصخبها
فلم تبهره أضواء المدينة وكان يعشق القرية بهدوءها وطيبة أهلها.
فتم تعيينه في مدرسة الصٌفيحة الأعدادية التابعة لإدارة طهطا التعليمية، كمدرس للغة الإنجليزية، ففتح مندرة العائلة لمساعدة أبناء القرية وأعطائهم دروس خصوصية مجانا ما عدا القادرين جدا أو الٌمصرين علي دفع مقابل بسيط.
والحق يقال كانت هذه عادة المدرسين في بلدنا فعلها قبل منه إدور متري وأحمد عبد العليم وصلاح أبو المجد وكلهم أساتذتي.
لم نكن نعرف الفرق بين الطالب والمدرس المسلم والمسيحي،
عمي كرم بارح كان نقطة تلاقي بين الأجيال في عائلتنا فهو يكبرنا بقليل ولكن نناديه عم كرم، هو يعرف كل أسرارنا وهو الأمين عليها، وهو المنقذ الذي نلتجأ إليه في كل مشاكلنا، وهو ولي أمرنا في المدرسة
عندما نشاغب ويُطلب منا حضور ولي الأمر فهو ستر وغطي، هو الجسر الممتد بيننا وبين أبائنا فطلباتنا التي تقدم لهم من خلال الأستاذ “كرم” كلها مجابة وهو القادر علي حل أي خلاف بيننا وبين الأباء.
كنا جيل من ما يقرب من ١٥ فرد أعمارنا متقاربة جدا من عائلة واحدة.
كان كرم بارح بمثابة الأب للجميع والأخ والصديق.
كان حنونا محبا متواضعا وعندما يبدء معنا الهزار فهو واحد مننا لا فرق بيننا وبينة.
نمت لديه موهبة الشعر فكان يستطيع أن يرتجل الشعر في أي وقت، فكان يكتب الشعر في المواقف التي تقابلنا فيصيغها بقالب شعري ساخر فنضحك جميعا.
ينسي هو ما كتبه ونحفظه نحن.
محلل سياسي رائع ملم بما يجري علي الساحة المصرية والعربية والدولية.
قارئ لكثير من الكتب في مجال السياسة لكبار الكتاب باللغة العربية والإنجليزية.
في أخر محادثة معنا قولت له أنني معجب بصفحات أولاد بلدتنا علي الفيس بوك فهم يجاملون بعضهم البعض مسيحيين ومسلمين ومن قبلي وبحري البلد ومن القري الأخري، فكان تفسيره أن الفيس بوك فتح قنوات للتواصل بينهم فقربهم لبعض أكثر فأحبوا وأحترموا بعضهم البعض.
بعكس أبناء جيلكم الذي كان يتشاجر كلما إلتقيتم لأنه لم يكن بينكم تواصل.
“ هكذا كان كرم فيلوسفا رائعا.
رفض كرم الترقية وتولي مهمة مدير مدرسة وأكتفي أن يكون وكيل بجدول.
ومارس ابوته وأهتمامه ببنات وشباب العائلة وعندما أقول العائلة فعائلتنا تتكون من ما يزيد عن ٢٠٠ أسرة، يمثل هو دور الأب الروحي للطلبة من أول جيلنا نحن حتي الأجيال الحالية أي أبناء الذين هم في جيلنا وأختاروا البقاء في بلدتنا.
كان يكلمني عن الموهبين دراسيا فيهم، بل دائما يكلمنا علي دعم هذه المواهب بل أن كرم كان يملك سلطة الأمر علينا ونلبي نحن بكل حب ما يمليه علينا.
تميز كرم بشئ دون غيره من أهل بلدتنا أنه طول حياته لم يخاصم أحد كان متسامحا مع الجميع محبا للكل.
كان كرم بارح علي موعدا مع أبناء عمه القادمين من الإسماعيلية لقضاء اجازة عيد الأضحي في الصعيد، وأتفقوا علي اللقاء في أول يوم العيد للذهاب لأصدقائهم وجيرانهم المسلمين في بلدتنا للمعايدة عليهم، كان من المفترض أن يمروا علي الجميع في منادرهم لتقديم التهنة بالعيد والبقاء ولو لبضع دقائق ولكنه لم يذهب، بل أنه تسبب في غلق منادر البلدة وقلب عيدها لمأتم.
قفلت جميع المنادر في البلدة وفتحت مندرة عائلتنا لاستقبال العزاء في رحيل كرم بارح ، شيعه أهله وجيرانه وزملاءة وتلاميذه لمثواه الأخير في موكب مهيب.
رحل كرم بارح عن دنيانا ولكنه لم يرحل من قلوبنا سنظل نتذكر من علمنا من كان أبا وصديقا وأخا لنا
نعم فقدناه ولكن لدينا يقين أنه في مكان أفضل بين أحضان القديسين والأبرار
سنري كرم في أبناءه سنحتضن كرم بارح عندما نحتضن كيرلس وأخوته. من حق أولاده أن يكونوا فخورين به فهم أبناء لرجل عظيم ومعلم أجيال فاضل أثر في كل من حوله ونشر حبه بين الجميع.