«هجيب لك عيش وحلاوة» بتلك الكلمات الساخرة، قطع شاب عشرينى الصمت والوجوم الذى ساد وجوه العابرين من جزيرة الوراق إلى الجانب الآخر من النهر، وجهها لصديقه الذى صافحه على باب المعدية، وهو يودعه نحو كورنيش النيل، قادماً من الجزيرة، فى أول رحلة للمعدية النيلية التى تربطها بالجانب الآخر، بعد 8 ساعات من التوقف، كانت أشبه بساعات الحصار للجزيرة التى افترش أهلها الأرض وجلسوا أمام ركام المنازل المهدمة لحراسة ما تبقى من منازل، مترقبين حملات إزالة جديدة.
«أبوالعلا»: سيدة لم تتمكن من الانتقال للمستشفى فوضعت بمنزلها.. و«صلاح»: «معانا أحكام من مجلس الدولة بعدم إخلائها
الكل يتوجس ويستعد، بمجرد اقتراب المعدية من شاطئ الجزيرة، تظهر تجمعات كبيرة، نساء فوق أسطح المنازل وفى الشرفات، وشباب يفرشون «الحصير» أمام أبواب منازلهم، الجميع يعيش تحت وطأة الخوف بعد الاشتباكات التى دارت بين أهالى الجزيرة والشرطة أثناء حملة لإزالة مخالفات وتعديات على أرض الجزيرة أمس الأول. «الوطن» زارت الجزيرة بعد تلك الأحداث الدامية، لترصد ليلتهم الأولى بعد الاشتباكات التى سقط خلالها أحد أهالى الجزيرة غارقاً فى دمه، وأصيب عدد كبير من عناصر الشرطة.
فى أحد الشوارع الضيقة التى طالتها جرافات الإزالة، جلست العجوز رضا حمدى، متشحة بالسواد، فوق حطام منزلها، صحت من نومها أمس الأول على جرافات الإزالة تدك الجدران، وتحكى أنها بنت منزلاً، لكن جاء فى طريق الكوبرى الجديد الذى تبنيه الحكومة لربط الجزيرة بالجانب الآخر من النيل، فتركته راضية، وتضيف: «قلنا مصلحة ومنفعة للكل»، لكنها فوجئت بحملة تهدم الغرفة التى بنتها فيما تبقى من أرضها. تتحدث السيدة وهى تصيح غاضبة، ولا تستطيع استكمال حديثها إلا بكلمات قليلة: «عشنا امبارح ليلة سودا».
عقودنا مكتوبة على الجلود من أيام الملكية.. ومش هنسيب الأرض».. «فرج»: الحملة لم تمس أملاك الدولة وأراضى الأوقاف.. ومستعدون لتكرار انقطاع الكهرباء والمياه بملء الخزانات
إلى جوارها يجلس محمود مسعود، شاب عشرينى، يتحدث بكلمات هادئة، ويقول إنه بعد تشييع جنازة سيد الطفشان، ضحية الاشتباكات، ألقت الشرطة القبض على عدد من الأهالى، وبعد انتهاء الاشتباكات، منعت الشرطة دخول أى فرد من الجزيرة أو عبور الجانب الآخر، وقطعت الكهرباء والمياه، ولم يعودا إلا ظهر اليوم الثانى للأحداث.
«مسعود» الذى بدا متحمساً رغم كلماته المنمقة، قال إن «الأهالى عاشوا 8 ساعات تحت الحصار داخل الجزيرة، لا يستطيعون عبور النهر، رغم أن حياتهم مرتبطة بالجانب الآخر من أكل وشرب ومستشفيات»، ويشير إلى أن أحاديث ترددت عن سيدة اضطرت لوضع مولودها داخل منزلها بطريقة بدائية، لأنها لم تتمكن من العبور للشاطئ الآخر للولادة بالمستشفى.
فى الثالثة والنصف فجر أمس، فوجئ «محمود» وأهل الجزيرة بشرطة المسطحات المائية تسحب جميع المعديات من النهر، وحين تجمهر الأهالى كان ردهم أن هناك تعليمات بسحب تلك المعديات وفحصها لكشف الأعطال، ويقول: «هل منطقى فى ليلة زى دى تسحب كل المعديات عشان تفحصها وما تسبش ولا معدية الناس تعدى منها»، وفى هذا الوضع ظل الأهالى داخل الجزيرة حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً عندما عادت الحياة للجزيرة مرة أخرى.
«محمود»: الحكومة سحبت المعديات فجراً بحجة فحصها.. ومنعت عبور مرضى «الكلى» فى مراكب الصيد
شعبان أبوالعلا، صاحب أحد المنازل المتهدمة، أكد أنه «لم يستسلم وأهل الجزيرة لهذا الحصار»، وأضاف أنهم استخدموا مراكب الصيد الخاصة بهم لحمل المصابين خلال الاشتباكات ومرضى الفشل الكلوى الذاهبين للمستشفيات لإجراء الغسيل الدورى، لكن حين وصولهم للجانب الآخر منعت الشرطة عبورهم واضطروا للعودة مرة أخرى للجزيرة بالمراكب.
أمام ذلك أيضاً، لم يستسلم الأهالى لذلك، فخلع أحدهم ملابسه وجمعها داخل حقيبة، واستخدم إطار سيارة كطوق ليعبر به للشاطئ الآخر، وتسلل بعيداً عن أعين الشرطة، ويقول «أبوالعلا» أحد الصيادين من سكان الجزيرة: «أحد شباب الجزيرة اتصاب فى الاشتباكات ونقل إلى المستشفى وكان لازم أخوه يروح له يطمن عليه، فاستخدم إطار الكاوتش كعوامة وعبر للجانب الآخر».
يؤمن «أبوالعلا» أن الدفاع عن الأرض أمر مفروغ منه، وأن الشرطة إذا عادت مرة أخرى لهدم المنازل سيتصدى لها الأهالى، على حد قوله، مضيفاً: «يا روح ما بعدك روح»، ويضع يده فى جيب جلبابه ليخرج عقداً قديماً مهترئاً، ويقرأ بنوده بعصبية، قائلاً: «ده عقد مسجل الأرض دى ملكى مش متعدى عليها، ولا أملاك دولة زى ما بيقولوا فى التليفزيون». منزل من طابق واحد ما زال باقياً وسط الحطام، وأمامه افترش «رمضان فرج» الحصير، وجلس مع أطفاله، وإلى جوارهم عدد كبير من زجاجات المياه، وخزان من المياه مملوء عن آخره، يشير إليهم بيده، ويقول إنهم بعد قطع المياه ليلة أمس، أخذوا حذرهم، فالرجل الذى فتح عينيه على هدم المنزل المجاور له، خرج وأسرته أمام الجرافات ليمنعها من هدم غرفته الصغيرة التى بناها على جزء من أرضه التى يزرعها ليأكل منه هو وأولاده.
ويقول «فرج» إن حملة الإزالة كانت تهدم المنازل بشكل عشوائى، والأراضى التى تعد أملاكاً للدولة وأراضى الأوقاف لم تمسها الحملة، ولم تتوجه لإزالتها، مضيفاً أنهم استهدفوا أصحاب المنازل التى ورثوها أباً عن جد، ويضيف: «اتغربت فى ليبيا 7 سنين عشان أرجع أبنى أوضة تلمنى مع عيالى وبعدين ييجوا يهدّوها»، وتابع: «لو قطعوا الميه عننا سنة مش هنسيب بيوتنا ونمشى».
صلاح محمد، يجلس قرب شاطئ النهر، يقول إن الأهالى قضوا ليلتهم يجمعون أثاث منازلهم المدمر، والبعض منهم بات ليلته مع أسرته فى الخلاء، بعدما هدمت الحملة جدران منازلهم كاملة، والبعض ظل داخل تلك الجدران المتهدمة، خوفاً من عودة الحملة مرة أخرى.
«محمد» يقدر أهالى الجزيرة بنحو 120 ألف نسمة تقريباً، يعيشون على 1810 أفدنة، ويقدر أملاك الدولة والوزارات الأخرى بـ60 فداناً فقط، والباقى يمتلكها الأهالى بالميراث أباً عن جد، ويقول: إن الإهالى لا يرفضون حصول الدولة على أرضها ولا انتزاع المناطق التى يستأجرونها ويدفعون لها إيجاراً شهرياً للحكومة، ويوضح أنه كان على الحكومة أولاً إخطار الأهالى والاجتماع بهم وحصر الأراضى وليس هدم المنازل مباشرة «عاطل فى باطل»، حسب قوله، مضيفاً: «إحنا بنى آدمين ونستحق معاملة أفضل من كده مش حيوانات هتيجى تمشيهم من بيوتهم وتخلى الأرض وخلاص».
ويضيف «صلاح» أنها ليست المرة الأولى لمحاولة طردهم من الجزيرة، وأن أول مرة كانت فى عهد مبارك، حيث حاولت الشرطة طردهم بنفس الطريقة، لكنهم حصلوا على أحكام من مجلس الدولة بعدم إخلاء المنازل، وصدر قرار من مجلس الوزراء بعدم إخلاء تلك المنازل عام 2001، واختتم حديثه قائلاً: «معانا عقود مكتوبة على الجلود، وإحنا هنا من قبل ما تكون الحكومة موجودة، ومن أيام الملكية وجدودنا موجودين ودى أرضنا ومش هنسيبها».
«تخيل واحد بتقلعه من جذوره» بتلك الكلمات عبر «صلاح» عن حال أهل الجزيرة حال طردهم خارجها، مشيراً إلى أن موقف أمس الأول والمواجهات ستتكرر إذا حاولت الشرطة إعادة الأمر مرة أخرى، ودخول الجزيرة بالقوة، ويضيف: «الناس هنا مش بتنام.. كل واحد قاعد قدام بيته يحميه». وأمام منزل سيد الطفشان، ضحية الاشتباكات، تجمهر عدد من أصدقائه وجيرانهم رافضين دخول أى صحفيين أو إعلاميين للحديث معهم، الجميع كان فى حالة غضب وحزن مطبق على الصدور.