حَسَّستُ بكفي فوق جيب قميصي، أثناء سيري غارقاً بأفكاري بالشارع؛ لاطمئن على الثلاثمائة جنيه.. الحمد لله، الانتفاخ الطفيف بجيبي أراح قلبي وطمأنه.. النقود بخير وأمان، حتى أصل للجزار وأحصل على اثنين كيلو لحم بلدي. سافر ذهني بالماضي ليسلي وقت سيري بذكريات أسعار زمان حين كانت الثلاثمائة جنيه لها صولات وجولات، وكان لها باعاً مع الباعة! لا تسألني أين سيارتك.. فالمسكينة لا تتحرك من أمام منزلي إلا في الضرورة؛ بعد أن كانت تختال في كل تحركاتي، حتى لو كان بآخر شارعنا.. هاااااح، دلع ولىَّ وزال.. ولا يوم من أيامك يا دعم.. على كل حال، جاءت الفائدة بكرشي المتلاشي كلما تلاشت شريحة من الدعم، أنظروا للإيجابيات.. وأنا دائماً ما أذكّر نفسي بأنني ليبرالي، مؤيد للإقتصاد الحر؛ لذا وجب عليّ تحمل تبعاته، حتى لو أساءت الحكومة تطبيقه، لحينما يأتي صندوق الإنتخابات ويوم الحساب. التفت بقارعة الطريق مقابلي على صوت وقور يناديني، إنه أحد زملائي الروائيين بإتحاد كتاب مصر، تبادلنا الترحيب والسؤال عن الصحة والأحوال، ودفعتنا غيبتنا الطويلة عن اللقاء إلى التطرق بالحديث عن ظروفنا الفكرية وأخبارنا الإبداعية، التي نعاني فيها عدم التفرغ للكتابة وما تستلزمه من شهور للقراءة والاضطلاع، وعرفت أن صديقي خرج في تمشية بالشارع بقصد التأمل لقنص فكرة رواية جديدة، وحينما سألني أجبته بأن مقصدي يختلف عنه؛ حيث أنني أسعى لقنص بعض اللحم من الجزار والعودة لأتأمل في ميزانية الشهر التي تؤلم موظف حكومة بسيط مثلي. سألني عن روايتي الجديدة فأجبته بأنها رواية تاريخية لازالت في طور الفكرة، انتظر الإجازات المدرسية – كالعادة – حتى أجد متسع من الوقت لأستكمل قراءاتي وبداية الكتابة والتجهيز للنشر كما فعلت برواياتي السابقة.. انتهى لقائنا العارض واستكملت سيري نحو الجزار.. وصلت أمام الفخدة المعلقة أمام الجزار، الذي يسن سكاكينه بهمة وحيوية، وانتظرت خلف شخصين.. انتظار منحني دقيقتين من التفكير الإيجابي الذي حرم الجزار من زبون مثلي؛ فقد قررت المغادرة على الفور دون شراء، وفي خاطري فكرة ايجابية متمردة، اختمرت في ذهني ووجب تنفيذها على الفور.. شالله يا إبداع.. غيرت وجهتي والجدية تكسو ملامحي من فرط التصميم على فكرة لا تقل أهمية عن فكرة روايتي الجديدة، ولم لا فالروائي يجب أن يكون مبدعاً على أرض الواقع كما هو مبدع بين طيات رواياته، والكاتب لابد أن يفكر للمجتمع ويلهم الناس وقت الحاجة للالهام. توجهت لمزرعة دواجن، وبدلاً من استخدام الثلاثمائة جنيه في شراء اثنين كيلو لحم، اشتريت عشرين فرخة صغيرة لأربيها على سطوح منزلي، وبعد ثلاث شهور احصل منها على بيض يريحني من اسعار البيض المرتفع، واستخدم لحوم بعضها بعد شهور.. والآن بعد أربعة شهور عرفت بكل سعادة كم كنت موفقاً في فكرتي؛ فإنني أحصل يومياً على بيض لا يكلفني غير بقايا طعام بيتي، وبضعة جنيهات أدفعها لشراء الذرة كل فترة.. ولكن انتظر يا عزيزي.. لم استسلم لزيادة سعر الذرة، عرفت أنه يمكنني الحصول على ثمانية أضعاف وزن الذرة باستنبات الذرة والشعير في نظام مائي بسيط خلال أسبوع فقط.. ولكن انتظر.. لم لا ازرع لأسرتي أيضاً كما أزرع لدواجني.. زرعت في أواني صغيرة ومتوسطة وكبيرة أنواع كثيرة من الخضروات والمنتجات الزراعية.. اصطدمت بمشكلة غذاء النبات وسماده، ولكن عرفت فيما بعد أنني أستطيع الحصول على “بوتاسيوم الكالسيوم” اللازم لطرح النبات من وضع قشر البيض المحروق في الخل.. حصلت على القشر من بيض دجاجاتي العزيزة، وقررت ألا أشتري الخل؛ فصنعته من عصير الليمون. نصحني بعض أهل الزراعة بشراء تربة جاهزة “البتموس”، ولكنني قررت ألا أدفع لشراء التربة المستوردة؛ فنحن بلد نيل، ولدينا من الطمي ما يلبي الغرض، ولدي سماد عضوي من فرخاتي الجميلة.. لنترك تربة البتموس لبهوات الفلل والقصور لأنهم يزرعون بترف ما يتجملون به وليس ما يأكلون منه.. هل تراني الآن يسارياً يا صديقي؟! لست كذلك، ولكنني أؤمن بأن ليبرالية الإقتصاد تضع على عاتق الجميع ثقافة الإنتاج لنستطيع التحكم في الأسواق، وبدون العودة للبيت المصري المنتج، سنظل نعاني من جشع التجار واستغلالهم باحتياجنا المبالغ فيه لكل شيء! لست في حاجة ماسة لكل ما أفعله من محاولات انتاجية داخل منزلي، ولكن هذه مساهمة مني في مشاركة طبقتي المتوسطة المنزلقة لأسفل والمعدمين مكافحة الغلاء والاستغلال، ومبادرة مني ليشاركني الفكرة بضع ألاف من كل مدينة، ومن ليس لديه سطوح يستطيع استخدام البلكونة.. لن يفيدنا السخط والصراخ الفارغ إلا زيادة الأزمة، ولكن لننتقد النظام والحكومة ونحاسبهما في صناديق الإنتخابات، ولا ننسى أن نفعل ما علينا.. كل دول العالم مرت بسنوات معاناة وتجاوزتها بنجاح حين اجتهدوا، فلنعمل على الإنتاج من كل شيء، وربنا يكون في عون الكتاب والمخترعين والعلماء والمبدعين في بلد بالكاد يستجمعون فيه أنفاسهم للتأمل والإبداع، وشالله يا إبداع!