بقلم / إيليا عدلى
كلما تحرك بابا روما، في رحلاته بالعالم الثالث، ينظر البعض لبيض ثيابه الناصع بالقداسة والنقاء والعفة، والبعض ينبهر بسلطته الدينية في العالم، والبعض يراه مروج سياحي لمصلحة خاصة أو وطنية، والبعض يراه غطاء لأمور سياسية أو دينية.. وأراه أنا كمثل كل هؤلاء، وأضيف أهم رؤية خاصة لي بأنه “يحمل تاريخ التنوير”.. نعم.. هذا الرجل بصفته بابا روما يحمل تاريخاً بدأ في أوروبا دينياً وتطور سياسياً.. شهد قرون غيرت من لون لباسه الأبيض إلى الأحمر الدموي، ثم عودته أكثر بياضاً وسطوعاً يحمل تجارب الماضي الأليمة واعتذارات شجاعة عن ممارسات العصور الوسطى، اعتذارات تعترف بأخطاء تم تخطيها والقفز منها نحو التنوير والنهضة.. كلما رأيت بابا روما يمر بخاطري شريطاً سينمائياً سريعاً، أرى فيه نضال شعوب عبر مئات السنوات للحصول على حرية العقل واستخدامه دون عقاب سياسي عنوانه الدين زوراً، وتخلصهم من الوصاية الدينية السياسية التي كانت تحجر على التقدم العلمي، تحولت بعد عصر التنوير إلى مباركة دينية للعلم والسياسة، حتى أن رهباناً نالوا شهرة كعلماء غيروا تاريخ العلم في عصر النهضة، كالراهيب النمساوي “جريجور مندل” مؤسس علم الوراثة، والمشهور بأبو علم الوراثة. ولكي أوثق مقالي هذا؛ فاليوم هو التالي لمغادرة البابا فرنسيس لمصر بعد زيارة تاريخية ، مثلت لي الأمل في أن يتأمل المسئولون عن هذا البلد ورجال كنيستنا القبطية العريقة للباس بابا روما كما أراه في خيالي وعقلي، وجاءت المفاجأة السارة لي حينما أعلنت الكنيسة القبطية والفاتيكان عن توقيع بيان مشترك، كان نصه في البداية الموافقة على اعتراف كل كنيسة بمعمودية الأخرى.. تهلل قلبي، وكالعادة.. عقلي السينمائي مرر في ذهني مشاهد البابا تاوضروس الثاني في زياراته لكنائس الطوائف الأخرى والتحول من سياسات البابا شنودة إلى سياسة جديدة تتميز بالانفتاح والحوار والتقارب.. تأكدت أن البابا تاوضروس رجل تقارب واتحاد يتواكب مع متطلبات المؤمنين في هذا العصر، دون تفريط في العقيدة.. أنا الذي ولدت في عهد أثناثيوس القرن العشرين “البابا شنودة الثالث”، وحتى قاربت وكل أقراني أن نطرق أبواب الأربعين من العمر، كثير منا يراه أب الآباء، الذي تعلمنا منه وكوننا من كاريزمته العلمية والروحية القدر الكافي ليثبتنا على إيمان كنيسة قبطية وطنية مصرية عريقة، دافعت عن الإيمان بدم ملايين الأقباط، حتى تدفقت هذه الدماء في عروق روما الوثنية وحولتها لروما المسيحية، أعطاه الرب نعمة العلم واللغة وفصاحة اللسان والفهم السياسي بما يخدم به كنيسته في عصره، كان ميله الشديد واهتمامه بالعقيدة الارثوذكسية إتجاهاً وهدفاً، تشربناه جميعاً، وتطرف به البعض نحو مناحٍ لا يهدف لها الرجل، فالبرغم من حرصه الشديد على الطقوس الآبائية إلا أنه دائماً ما كان له قرارات مبنية على فهم لروح الإيمان وليس حرفه كما يفعل قليلي الحكمة.. لن اتعرض هنا لقراراته بنزول الرهبان للعالم بعيداً عن أديرتهم أو اعتراضه على طقس الأكليل بالنهار؛ تخفيفاً عن الناس ومواكبة للعصر كما حدث مع أسقف الأقصر وغيرها، وإنما سأركز على مثال يخص موضوعنا وهو التقارب نحو توحيد المعمودية بالكنائس.. ففي فيديو للأنبا بيشوي بتاريخ الثامن من أبريل 2016 يعدد الأمثلة على خلافنا العقيدي واللاهوتي مع الكاثوليك، وذكر الأسقف أن البابا الراحل صرح للكنائس بمعمودية الكبار “بالرش” بماء المعمودية دون التغطيس لو وجد الشخص حرجاً في ذلك.. هكذا كان البابا شنودة، مرناً غير مفرطاً في العقيدة.. فمن أين أتى المتشنجون بكل هذا الإعتراض على مجرد “التقارب” في طقس رمزي كالمعمودية؟!! كانت الهجمة على البيان الموقع بين الكنيستين شرسة حتى أن البيان أصبح نصه في اليوم التالي يعبر عن مجرد السعي نحو التحرك نحو التفكير في التباحث نحو التقارب!!! كان همي الوحيد تلمس روح الانفتاح والميل إلى التنوير في الأمور الدينية، ليس لمجرد الدين ولكن كمقياس للفكر المجتمعي عموماً.. حاولت التهامس مع من هم أكثر مني معرفة في هذا المجال وخصوصاً المعترضين على التقارب؛ لكيما أضع يدي على سبب هذه الهجمة وهذا الاعتراض، وقد يكونوا أصحاب الحق والفكر الأرجح في ذلك.. بعض الاكليريكيين والخدام الأرثوذكس، تبين لي أن اعتراضهم مبني على رفض التقارب في الجزء حتى يحدث الإتفاق على الكل، بمعنى لا يمكن الاتفاق على المعمودية إلا بعد التوافق على رأي مشترك في أمور عقيدية تحتاج لسنوات طوال في النقاش، وقد يستحيل الاتفاق على بعضهما، فهناك عقيدة انبثاق الروح القدس والمطهر وشفاعة العذراء والطقوس.. فكان السؤال والتساؤل اليائس البائس: “لما لا نتفق على ما هو ممكن ونترك الاختلاف للنقاش؟!”، فتخرج لك الأوداج المنتفخة رفضاً وتشنجاً: “إما الاتفاق على الكل وإما الابتعاد!”.. ألم يصرح البابا شنودة الثالث بمعمودية الكبار المتحرجين بالرش؟! يأتيك الرد الركيك: “لا تأخذ بالاستثناء وتنزع ثبات القاعدة”.. يا سلااام؟!!! من وضع القاعدة هو فقط من يحدد الاستثناء، فإن كان التغطيس جاء من الروح القدس ويوحنا المعمدان فمن أين أتى الاستثناء؟!!!! وإن كان الاستثناء وضعه اجتهاد بشر، فأقبلوا الاستثناءات الجديدة من اجتهاد بطريرك يريد التقارب والاتحاد. الأخطر من لغة التشنج في رفض التقارب هو لغة “الحرمان” أو ما يقابلها بلغة مجتمعنا “التكفير” مع الفارق طبعاً في توابع الكلمة في اختلاف العقائد، فيقول لك المتشنجون: “نحن نلتزم بنص الكتاب المقدس في التعامل مع المهرطقين، فيقول عنهم في (غل 1: 8): وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ «أَنَاثِيمَا»! ” ؟ ومعنى كلمة “أناثيما” أي محروماً.. ويستشهدون برسالة يوحنا الثانية في قوله: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ. 11 لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ.”.. وبالطبع المتشنجون يتركون التفاسير المليئة بالمحبة ويتمسكون بالقاسية، فإذا اختلفت معه يعتبرك رجس، وحتى بوستاتك المسكينة على الفيسبوك تحرم من لايكاته!.. لا تنس يا عزيزي في فريقي أن الفريق الآخر لديه نفس الآية وإن تمسكنا بأنه يظل في نظرنا “أناثيما” فنحن في نظره “أناثيما”.. الحوار هو الحل، والتقارب خطوة خطوة، ليس قفزات.. يحتاج إتفاق على المتاح حتى نصل للمستحيل.. لا تصنعوا المزيد من المستحيلات.. كان عزائي اليوم أحد الرهبان الأقصريين التنويريين ومثله الكثيرين ممن يعطوني أمل في زوال موجة التشنج بيننا، وتجاوز كنيستنا التأثر بروح مجتمعية أكثر منها كنسية. نثق في قداسة البابا تاوضروس الثاني.. وأثق في روحه المحبة للسلام والتقارب، وأتمنى أن يثبت في هذا الإتجاه حتى ينكشف المصفقون في كل الحالات أو المتشنجون دائماً.. وأما أنت يا قداسة بابا روما، أقول لك، برغم اختلافي مع بعض أفكار كنيستك، إلا أن اعجابي بلباسك الناصع، حامل تاريخ التنوير والنهضة، لا يقل عن اعتزازي بتاريخ كنيستي القبطية الارثوذكسية، التي أحلم أن تكون ملح الأرض في التنوير والنهضة لمصر كلها. شكراً قداسة بابا روما على كل كلماتك المحبة لمصر، شرفتنا بفتح كل الطرق نحو روما، ولكن ليست كل الطرق المؤدية لروما سالكة، في طريقنا أحجار ومصدات!