الجمعة , نوفمبر 22 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

ضد التيار

مدحت موريس

لم تهدأ الرياح بعد….قالها وقد استكان فى قاربه، رفع مجدافيه داخل القارب وظل منتظراً أن تهدأ الرياح.

أغمض عينيه وتمنى لو غفا قليلاً لكن العواصف تتلاحق وتزمجر وكأنها ترفض غفوته بل وتناصبه العداء دون سبب واضح لديه اما هو فقد علمته الأيام أن يخفض رأسه للعاصفة حتى تمر لكنها هذه المرة تأبى أن تمر بل تتوالى ويطول أمدها فتظل رأسه منخفضة ومنحنية لعاصفة لا تبدو لها نهاية.

ليلة وليلتان ثم ليلة ثالثة وهو يختبىء فى قاربه يتمتم بالدعاء من أجل أن تمر العاصفة لكنه حتى فى دعائه لم يرفع رأسه بل ظلت رأسه منحنية لأنه لم ينس للحظة أن الرياح من حوله تحاصره من كل اتجاه كوحش جائع يتلذذ بتعذيب فريسته قبل أن يقضى عليها.

ثم تتمادى الرياح فى سطوتها وسلطانها. وتزداد الأمور قسوة بخيانة الأصدقاء فالبحر – وكان صديقه الأقرب والأوفى والذى لم يبخل بخيره عليه فى الماضى- قد انصاع لأمر الرياح العاتية فتوحش وانضم الى زمرة الأعداء الذين تحالفوا وعقدوا العزم على تعذيبه واذلاله قبل الخلاص منه.

والرأس التى أحناها بارادته حتى تهدأ الرياح ها هى الآن تنحنى اكثر ذًلاً وكسرة ورعباً وصارت الأمواج تضرب قاربه فى عنف والرذاذ الذى كان ينعش وجهه فى الماضى صار أشواكاً تنغرس فى وجهه وجسده.

تتلاعب الأمواج بالقارب وتسيره فى اتجاه الرياح وحسب أمرها….ترفعه وتخفضه، تحتضنه بمياهها حضناُ خانقاً ثم….ثم ينقلب القارب….ينقلب القارب به ويسقط هو تحته فيرى مشارف الظلمة….ظلمة الموت قبل أن يدور برأسه بعيداً عن القارب المنقلب ثم – ولأول مرة منذ بدأت الرياح حربها- يرفع رأسه ليتنشق القليل من الهواء بأنفاس متلاحقة هاربة من ظلال الموت.

يتشبث بحواف القارب المنقلب وهو لا يزال يرفع رأسه متمسكاً بالحياة حتى لو خاض حرباً يدرك أنه الطرف الأضعف فيها بل وقد تكون حربه الأخيرة ضد الرياح والعواصف والبحر وأمواجه المتلاطمة.

يطول صراعه بالقدر الذى يرفع فيه رأسه وعندما تخور قواه وتبدأ رأسه فى الانحناء تقترب منه انكسارات الهزيمة التى تجر معها شبح الموت. بلغ الضعف مبلغه منه والرياح مازالت على قسوتها وأمواج البحر تزداد قوتها….ولا يزال ممسكاً بالقارب المنقلب يريد أن يعتليه فحاول أن يرفع جسده عدة مرات فاشلة قبل أن يتمكن أخيراً من تثبيت ساقه فوق القارب وبالكاد انتشل جسده ليصعد بأكمله فوق القارب.

لم تكن تلك هى النهاية السعيدة للحرب التى خاضها مُجبراً فمازال القارب لعبة يلهو بها البحر وتتحكم فيها الرياح وهاهو القارب المنكوب يقوده مرة أخرى الى حيث تريد الرياح فأخذت تسحب القارب بمن عليه فى تيارها الشديد وهاله أن يرتبط مصير حياته بمصير قارب مُنقلب وبأسماك صادها قبل أن تشتد الرياح، نظر الى حقيبة من الخيش كانت قد علقت بالقارب ولم تفارقه طوال الأحداث تلك الحقيبة التى وضع فيها أسماكاً صادها خلال تلك الفترة الزمنية التى عجز عن حسابها.

كان بعضاً من الأسماك ميتاً والبعض الآخر أسعده الحظ بالمياة التى غمرت القارب وبالتالى تلك الحقيبة فانعشت عافيته، وبينما ينجرف القارب مع التيار أمسك حقيبة الخيش وأفرغها ما فيها من اسماك فى جوف البحر الهائج فطفت الأسماك الميتة على سطح البحر وجرفها التيار بينما انطلقت الاسماك التى لا تزال فيها نسمة من الحياة فى الاتجاه الآخر…عكس اتجاه التيار… لم يفكر كثيراً وتجاهل تعبه وخوفه و القى بنفسه من فوق قارب كان يظنه قارب انقاذ الى قلب البحروانطلق مع الأسماك فى الاتجاه الآخر ليصارع الأمواج من جديد بقوة وعزم، فكما علمته الأيام قبلاً أن يخفض رأسه للعاصفة حتى تمر فقد علمته الايام أيضاً أن السمك الحى وحده يقدر أن يسبح ضد التيار.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

قومى استنيرى

كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.