الثلاثاء , نوفمبر 19 2024

أحمد عناني: يكتب الليبرالية والاسلام علاقة تكاملية .

بقلم احمد عنانى
عز المسلمين في الليبرالية، إن الليبرالية هي المناخ الأنسب الذي يتيح للإسلام أن يجسد مبادئه العظيمة في العدل والمساواة وحفظ الكرامة الإنسانية وإسعاد البشر، فمن حقائق الواقع الإسلامي أن للمسلمين نحو ستين دولة، وأن أكثر هذه الدول مازالت شديدة التخلف، ولا يمكن أن يكون الإسلام ذاته هو المسؤول عن هذه الأوضاع البائسة المزرية،
وإنما الوصاية عليه هي التي انكمشت بتعاليمه، وحجبت أضواءه، وأوصدتْ عليه في أُطر ضيقة، فالليبرالية بما تتيحه من تنوع وتكامل وحراك ومرونة ونشاط وتوقد، هي التي ستتيح لأضواء الإسلام أن تكون بكامل سطوعها وأقصى درجات إشعاعها، بدليل أن ماليـزيا، وهي من أشد الدول اهتماماً بالإسلام وبقضايا المسلمين، قد تبنت الليبرالية، فاستطاعت بذلك أن تحقق إزدهارا مشهودا رائعا يستحق الاحتذاء، وكذلك تركيا بعد وصول الإسلاميين الليبراليين إلى الحكم، فلقد حَدُّوا من الهيمنة المطلقة للعسكريين، وتمكنوا بليبراليتهم الإسلامية من تحقيق قفزات مهمة في كافة المجالات.
وإذا أتيح لتركيا أن تستمر بـهذا الانفتاح الناضج والنمو السريع الشامل فإنـها سوف تصبح من الأقطار المهمة، ليس فقط على مستوى منطقة الشرق الأوسط وإنما في العالم كله، أما إن عادت قبضة العسكريين وخنقوا الليبرالية الوليدة فسوف تعود تركيا إلى ركودها الباهت وتختنق وعودها المضيئة، إن تميز ماليـزيا وتركيا من بين الدول الإسلامية يدل على أن المناخ الليبرالي هو الحل.
إن كلمة liberalism كلمة لاتينية تعني الحرية، لكنها بمعناها الفلسفي تعني الحرية المسؤولة المنضبطة بالأخلاق والشرع والقانون، أما أسباب غموض مفهوم الليبرالية في ثقافتنا فيعود إلى أن الكلمة لم تعرَّب، وإنما بقيت في العربية بلفظها الأجنبي، مما أبقى المعنى غائماً، أما السبب الثاني فهو حساسيتنا الشديدة في التعامل مع الفكر الغربي، فنحن نتوجَّس من أية فكرة وافدة خاصة إذا كانت ذات محتوى سياسي أو ثقافي أو اجتماعي، فنحن لانتقبَّل من خارجنا سوى المعلومات كمسائل مبتورة من سياقها الفلسفي أو التقنيات الجاهزة، أما الأفكار فنرفضها ابتداء من دون أن نحاول فحصها، فيحرمنا ذلك من أن نتعرَّف على محتواها مع أن الأفكار هي مصدر الإزدهار.
إن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية والحزبية والثقافية والدينية في العالم العربي قد حاربت الليبرالية؛ لأن قبول الليبرالية يستلزم التخلي عن الانغلاق الثقافي والاستبداد السياسي والذوبان الاجتماعي، بينما أن الجميع في البيئة العربية قد تربوا على الرؤية الأحادية المغلقة، فالذين يملكون أية سلطة ثقافية أو معرفية أو سياسية أو حزبية أو اجتماعية أو عشائرية قد اعتادوا أن يكونوا أصحاب الرأي الأوحد: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»
لذلك لم تكن البيئة العربية مهيأة ولا مفتوحة لهذا المفهوم الإنساني الرفيع، لقد حوربتْ الليبرالية من قبل الانقلابيين العرب، وكذلك حاربـها عامة الناس والقوميون والبعثيون والناصريون والإسلاميون، وربما كان الماركسيون العرب هم الأشد عداء لليبرالية؛ لأن ولاءهم للاتحاد السوفييتي وللمعسكر الشرقي وللأيديولوجيا الماركسية قد جعلهم يربطون بينها وبين الرأسمالية التي كانوا يرون ضرورة إسقاطها ومواصلة الحرب ضدها حتى يتحقق هذا الهدف، وهذا فهمٌ خاطئ لأن الحس الإنساني في الليبرالية يروَّض وحشية وأنانية وجشع الرأسمالية.
الليبرالية يمكن تلخيصها أن جوهرها هو الحرية المسؤولة، وأن ارتقاء الإنسان علماً وأخلاقاً وكرامة وسعادة هو هدفها، وأن آليات العمل فيها تتنوع بتنوع الثقافات ويُقصد بـها فلسفيا المناخ الحر أو المذهب الحر أو البيئة الثقافية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية الحرة، إنـها تتأسَّس على رد الاعتبار للإنسان الفرد، والاعتراف بحقه في الاختيار، وضمان الحريات الأساسية له، وتنظيم الحياة والقوانين والإجراءات والمؤسسات على أساس أولوية الفرد بوصفه فرداً ذا كيان مستقل، يتحمل مسؤولية نفسه ويلتـزم بأداء واجباته ويكون مصون الحقوق ومحفوظ الكرامة، إن الليبرالية هي الثمرة اليانعة للرؤية الإنسانية الناضجة عن طبيعة الإنسان والثقافة والسياسة والمجتمع والفرد، والتـزامٌ بما تقتضيه هذه الرؤية فكل إنسان هو كائن فريد، وهو لن يحافظ على فرادته ولن ينمي قابلياته ولن يحقق ذاته ولن يصون كرامته إلا إذا كان حُرًّا، أما إذا جرى إفساد وردْمُ قابلياته وتقييد تفكيره وتكبيل عقله ومراقبة حركته وتضييق الخيارات أمامه وإغلاق الكثير من الفرص دونه فسوف يفقد ذاته ويتحول إلى دمية تحركه البيئة ويتلاعب به الأيديولوجيون.
إن الليبرالية ليست من منتجات بادئ الرأي، وإنما هي ثمرة التفكير الفلسفي الناضج، إنـها مناخ جياش مفتوح تظهر داخله وتنمو وتتطور الأفكار والأدوات والتطبيقات والآليات، فخلال الممارسة الحية والنقد الموصول تتطور ثقافة المجتمع وتتنوع منتجاتـها فيرتقي أسلوب الحياة تلقائيا، إن الليبرالية تعني الحرية المنضبطة بالشرع، فهي ليست حرية فوضوية، ولكنها حرية ناضجة محكومة بالشريعة والقوانين، إنـها الرؤية الأشمل والأوسع للمجتمع المدني، إنـها المناخ الإنساني الرحب المفتوح الذي يتسع للجميع ويتعاون فيه الجميع ويتساوى فيه الجميع، فالكفاءة هي معيار التفاضل والناس سواسية أمام القانون والشأن العام محل عناية الجميع، إنه يقوم على الشفافية والعلن والأمانة والمحاسبة، فالجميع معنيون به ومسؤولون عنه ومشاركون فيه.
تجارب الأمم الأخرى تؤكد أنه لا يمكن أن يتحقق أي ازدهار حقيقي، ولا تنمية مستدامة إلا في مناخ ليبرالي مفتوح، تستثمَر فيه كل الطاقات، وتُكتشف فيه المخالفات، وتُصحَّح فيه الأخطاء، وتوقف فيه التجاوزات، وتُبنى فيه القدرات، وتتفتَّح فيه الإمكانات، وتتعاضد فيه كل المكوَّنات، فبمقدار الانفتاح الليبرالي يكون الازدهار، وبمقدار الانغلاق يكون التخلف.
لا تختلف المجتمعات الإسلامية عن بقية المجتمعات الإنسانية، فهي تحتاج المناخ الليبرالي؛ لكي تفكر بطلاقة وتتعلَّم بفاعلية وتعمل بمهارة وتتحرك بمرونة وتنمو بسرعة، فتتكامل فيها الطاقات وتنضج القابليات وتنفتح الآمال وتتنوع التطلعات، وبذلك يتحقق الازدهار، إن ازدهار العقول مرهونٌ بما يتوافر لها من الحريات ومن تكافؤ صراع الأفكار وتبادُل الاعتراف بين الاتجاهات، إن الإسلام يخاطب الناس بالعقل ويواجههم بالحجة ويقنعهم بالبرهان: «قل هاتوا برهانكم».
إنه لا يعمل في الظلام، بل إنه لن يزدهر الازدهار الذي يليق به بوصفه دين الله الخاتم وباعتباره الحق المطلق إلا في المناخ الليبرالي المفتوح، إنه ليس خاصا بقوم دون غيرهم، وإنما هو دعوة عامة تعمل في العلن وتُعلن مبادئها وتعاليمها لكل البشر، إنـها دعوة للناس كافة، فتوصيل حقائق الإسلام العظيمة إلى كل الناس يتطلب القدرة على التواصل مع الجميع، إن الليبرالية هي البيئة المناسبة لهذا الدين العظيم الذي يقوم على مخاطبة العقل ويتأسَّس على الإقناع وليس على الإخضاع، فالليبرالية هي الحرية المنضبطة بالتشريع، أي أنـها مناخٌ مفتوح يطمئن فيه الجميع، ويتاح لهم سماع كل الحقائق، والإطلاع على كل المعارف، والاستفادة من كل الاتجاهات، والمواجهة بين جميع الآراء. إن عز الإسلام لا يكون بالهيمنة عليه أو الوصاية على مضمونه، واحتكار الحديث باسمه، وإنما عزه يتحقق حين تتاح له المواجهة المباشرة مع كل من يختلفون معه أو يختلفون فيما بينهم من داخله.

شاهد أيضاً

تفاصيل الحكم النهائي الصادر في حق القاضي قاتل زوجته “المذيعة شيماء جمال”

أمل فرج  أصدرت محكمة النقض المصرية، الاثنين، حكمها النهائي بإعدام المتهمين أيمن عبد الفتاح، و …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.