الاديب/ واسيني الأعرج
هناك بعض الظواهر تتطور بشكل مجنون، ولا يمكن أن يخضع ذلك لمجرد الصدفة، أو الحروب التي مزقت أوصال العالم العربي منذ بدايات القرن الماضي على وجه الخصوص. فما كان مجرد ظنون عامة يفبركها الأفرد لحظة الهزيمة أو الخيبات العامة، أو خيارات شخصية، أصبح حقيقة معممة، وتحول إلى ظاهرة تستحق التأمل.
فقد وجدت التهديدات، والاعتداءات المتكررة ضد المسيحيين العرب، وترحيلهم من مناطق الخطر، صدى كبيراً لدى الأفراد والجماعات والهيئات الدولية المشرفة على المهجرين المهددين بسبب ديني أو عرقي أو سياسي.
لهذا، فما يحدث أمامنا من التشجيع على الترحيل له ما يبرره ميدانيا. أي أن المسيحيين لم يغادروا أرضهم، وأرض أجدادهم، طواعية، وبرغبة طارئة، أو بعداوة مضمرة ضد هذه الأرض أو تلك، أو لتنوعها الديني أو غيره.
هناك وضع حرج وشديد القسوة، فرض على منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد.
وضع معقد لم تُسْتَشَر فيه، في سياق تثبيت نظام دولي جديد لم يكشف بعد عن كل مراميه ولو أن علاماته الأولى بدأت تظهر من خلال الحروب التي دمرت شعوبًا بكاملها واضطرت الملايين إلى الرحيل بعيداً عن مناطق الحرب.
بعض هذه الحروب تشن تحت غلاف ديني، يقف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على رأسه، الذي أكل الأخضر واليابس، ووجد في استراتيجيته تدمير الكيان المسيحي ضالته الكبرى ليوصل خطابه الإجرامي إلى الغرب الذي يعتبره عدوه الأساسي على الأقل في خطاباته.
من هذه الناحية أعتقد أنه لا خلاف، ولا لوم للمسيحيين بسبب خروجهم واتجاههم نحو المناطق الأكثر أمناً أو المحمية بالخصوص أوروبا.
الذي يثير الجدل اليوم ليس هذا كله، ولكن السياسة الغربية المتناقضة، وغير المتفقة، التي رحبت بالمسيحيين وفشلت كلياً في تثبيتهم في بلدانهم الأصلية مع توفير الحماية اللازمة أو حتى في المهاجر.
التهجير الجماعي لمسيحيي الشرق وإفراغ المنطقة منهم، أمر شديد الخطورة لأنه سيفقر في النهاية المنطقة العربية تحديدًا من تعدديتها ومن مادة رمادية كانت فعالة جداً عبر التاريخ، ويدفع بالشرق المتعدد الذي عرفناه دائماً، إلى الموت البطيء والانتحار الهاديء.
نعرف جيداً الجهد العلمي والثقافي المسيحي الذي غير المنطقة العربية بمعارفه وعقلانيته. لا أحد ينكر على المسيحيين الشوام تحديداً، أنهم كانوا وراء تأسيس الصحافة العربية مثل الأهرام في مصر، التي ما تزال مستمرة إلى اليوم.
هم أيضاً من أسس المعاجم والقواميس، في دفاع غير مسبوق عن لغتهم، العربية، وتبسيطها والتخفيف من أثقالها، لجعل تعلمها يسيرًا.
فجأة تخلصت اللغة العربية من البلاغة الثقيلة التي جعلتها بيتاً مقفلاً على نفسها وعلى الناس. فجورجي زيدان رائد الرواية العربية التاريخية، مثلا جعل من اللغة العربية رهاناً ثقافياً كلياً.
لقد رسخ مسيحيو الشرق التجديد الأدبي بقوة في الأرض العربية.
جبران ومي زيادة يستحقان أن يكونا مثالاً لهذه التجربة التي نزعت عن العربية بعض خشونتها وجمودها، وارتقت بها نحو أعماق الإنسان.
لم تعد اللغة فقط وسيلة تعبير، ولكنها كيان مستقل يصنع جمالية النص أيضاً وتقريبها من العلم أكثر.
نص في طور التجديد والتكوين.
وليس غريباً أن يأتي شخصان بعد جبران ومي ويجددا في العربية ويدخلاها إلى القلوب ويمنحاها فرصاً كبيرة للتطور والتجدد: نزار قباني وغادة السمان.
المؤكد أنه لكل كاتب عربي جهوده اللغوية وتجديداته بكتاباته، لكن الظاهرة تحس بعض الكتاب.
الذي لا يعرفه الكثير من الناس، أو لا ينتبهون له، هو أن المسيحيين،من الناحية اللغوية، ليسوا أقلية لأنهم جزء من الجسد العربي.
عرب ينتمون إلى الأغلبية العربية في الشرق الواسع، لكنهم أقلية دينية بالقياس إلى المسلمين.
حماسهم نحو عروبتهم وثفافتهم تجعلهم كباراً ومخلصين أيضاً تجاه هويتهم الثقافية والدينية في اتساعها وتنوعها.
نزوعهم الثقافي المتعدد أخرجهم من الهوية الدينية الضيقة، وجعلهم أقرب إلى هوية متعددة متنامية تشكل فيها العربية كمساحة ثقافية وحضارية وليس دينية، أكثر من فكرة الهوية المنجزة والثابتة التي نجدها عند بعض المثقفين المسلمين، الذين ضيقوا الهوية حتى جعلوها تتماهى مع الإسلام مما جعل المسيحيين خارج المكون الحضاري المتعدد.
الهوية حركة دائمة عبر التاريخ، منجز في طريق التكون، وكلما جمدت أصبحت معادية لكل ما يختلف عنها.
على العكس مما يظنه بعض اليقينيين، من ضيقي الأفق أن الهوية العربية الإسلامية أنجزت قبل قرون، وهي المرجع الأوحد، فالأمر أعقد من ذلك.
الحضور العربي المسيحي كان دوماً قيمة مضافة للتطور والبناء والإسهام النوعي على الرغم من الصراعات الدينية، أو الطائفية، والحروب الأهلية.
الدين المسيحي، كدين بمختلف كياناته الأساسية والفرعية، لم يتناقض في أي يوم من الأيام مع عروبته الثقاقية وليس العرقية، في لبنان وسوريا والأردن، ومصر، بل كثيرًا ما اعتبرها مساره الجامع.
اللغة والدين في تعدديته، كانا يتكاملان دوماً.
وهذا التمزيق المنظم والمحكم الذي يعيشه مسيحيو الشرق اليوم، هو أخطر ما يمكن أن يحدث للكيانات العربية المتهاوية بشكل مفجع، في ظل ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد والتصنيع الخفي للكيانات أيضاً.
ما هي السياسات العربية المختلفة المتبعة حالياً للحفاظ على النور الذي هو جزء حي من الشرق المتعدد الذي عرفناه دوماً؟ لا توجد أية سياسة عربية مطلقاً في هذا السياق.
كالعادة، يلتفت الحكام العرب المخولون بالتفكير في معضلات العالم العربي، صوب الفراغ، ويتركون المبادرة لغيرهم وجشع الغرب الاستعماري تحديداً لأنه الأقوى، يخطط في مكانهم، وينظم حياتهم كما يشاء ووفق مصالحه.
المصيبة أن التجارب القاسية كثيرة، لكن الدرس لم يحفظ. سبق أن حدث ما يشبه هذا عندما اضطرت الحسابات السياسوية الغربية، إلى تكوين الدولة العبرية، وتم فصل اليهود عن المسلمين، وإفراغ المنطقة منهم، على الرغم من أنهم كانوا دائما جزءاً من المكون السكاني الاجتماعي والثقافي الضارب في عمق التاريخ بلحظاته الجميلة ولحظات صراعه.
في العراق تم استهداف اليهود من الحركة الصهيونية نفسها بالتفجيرات لتخويفهم وللدفع بيهود الشرق إلى الهرب. ولم يبق من اليهود شيئاً في العراق، إلا بعض شتات لا يكاد يذكر.
اليمن أيضاً يتعرض اليوم لاستراتيجية التفريغ نفسها.
في البلدان المغاربية من تنفذ من هذه السياسة التفريغية.
فقد دمر قانون كريميو في 1870 اللحمة القديمة بمنحه اليهود الجنسية الفرنسية، بينما أبقى المسلمين على وضعية الأهالي بلا أي اعتراف.
وهو ما يحدث للمسيحيين اليوم، الذين كانوا قرابة المليون ونصف مليون في العراق مثلاً، لم يبق منهم إلاّ بضعة آلاف لا تتجاوز الخمسة آلاف في أفضل الأحول.
القاعدة، ثم الاحتلال الأمريكي، ثم داعش، هدموا كل بنى الدولة وتركوا وراءهم أرضاً يباباً، الأمر الذي دفع بالكثير من المسيحيين إلى الهجرة والبحث عن سبل الاستقرار الآمن في أوروبا التي ساعدت المهجرين المسيحيين أكثر من غيرهم.
وبسبب التقتيل الداعشي، خضعت مصر وسوريا واليمن للمآسي نفسها.
بينما كان السودان ضحية سياسة مجنونة بتطبيق الشريعة على السودان مما جعل المسيحيين يطالبون بالاستقلال في ظل مجاعات وحروب أهلية لا تنتهي. وهاجر الكثير منهم خارج بلدانهم.
الشرق يسير اليوم بوتيرة متسارعة نحو شرق بلا مسيحيين. شرق مسطح كما يشتهيه الغرب الاستعماري، يبيد نفسه بنفسه، هذه المرة على أساس طائفي وعرقي ولغوي.